الخطاب السياسي العراقي.. صناعة كراهية وتهافت من أجل السلطة
تتجلى حالة الانقسام السياسي في العراق بشكل واضح في الأشكال المختلفة للخطاب السياسي الذي تستخدمه الحركات والقوى السياسية المتعددة في البلاد.
لكل دولة في هذا العالم خطابها السياسي الذي يحدد سياستها الداخلية والخارجية وهي سياسة ثابتة تنطلق من مفاهيم وبرامج وثوابت تخدم مصالحها الجوهرية. وفي حين كان الخطاب السياسي لأغلب التيارات السياسية العراقية يدعوا إلى مدنية الدولة ونبذ الطائفية إلا أن هذا الخطاب تحول في اقل من عشر سنوات الى خطاب وطني مشوه ومتناقض أدى إلى ترسيخ ثقافة الكراهية و زراعة الإحباط لدى الجماهير العراقية. ومن خلال دراسة مفردات هذا الخطاب وأثره، يمكننا تصنيفه إلى أربع اتجاهات، الشعبوي، والتعبوي، الإقصائي والعقلاني.
أولاََ: الخطاب الشعبوي
لم يكن الخطاب الشعبوي جديدا على العراقيين، بل هو أقدم أنواع الخطابات السياسية وأكثرها تأثيرا في الجماهير، والأكثر قربا من همومهم ومشاعرهم، فهو الخطاب الذي رافق الحركات الاحتجاجية القومية والشيوعية خلال الحقبة الملكية في النصف الأول من القرن الماضي، وهو الخطاب الذي اشتركت فيه السلطة الشمولية والمعارضة الأيديولوجية السرية والعلنية خلال حقبة ما بعد تأسيس الجمهورية في عام 1958، وهو بنفس الوقت خطاب الحقبة البعثية التي عادة ما يرتكز خطابها على إثارة الكراهية ضد الغرب، وإقصاء النخبة، والحديث باسم الشعب.
واليوم تغيير الخطاب الشعبوى العراقي بشكل جذري حيث صار محتكرا من قبل فئة سياسية محددة تتحدث باسم عموم الشعب بملايينه الأربعين، وأصبح هذا الخطاب يجسد ثقافة كراهية النخبة الحاكمة، و السخرية والتنمر وإصدار الأحكام وتوجيه الاتهامات دون اكتراث بالتقاليد السياسية أو الرجوع إلى المؤسسات الدستورية والإدارية والقانونية، فالخطاب الشعبوي يحتقر التقاليد السياسية السائدة، ولا يقف عند حدود بيروقراطية أو قانونية، ويدعو للتغير الجذري الشامل.
لا يفتخر الشعبويون العراقيون بما تحقق من تغيير ديموقراطي بعد 2003، ولا يبدو من خطابهم انهم يقدسون أي وضع سياسي، إنما يعلنون عن تقديس العراق بشكل مطلق، فالوطن والشعب والتخلص من الأحزاب الفاسدة مفردات دائمة الحضور والتكرار في خطابهم الذي يخلو من أي برنامج سياسي أو تنموي واضح الملامح. ومن الملامح السياسية للخطاب الشعبوي في العراق اليوم هو الموقف السلبي من إيران والقوى السياسية المتحالفة معها في العراق. ويقف التيار الصدري والقوى التشرينية والتيار المدني إضافة إلى الشيوعيين وبعض الذين يصنفون أنفسهم ليبراليين وطنيين في مقدمة القوى التي تعتمد الخطاب الشعبوي في التواصل مع قواعدها الجماهيرية أو لإيصال رسالتها السياسية.
ارتكز الخطاب الصدري على ثلاث ثوابت، أولها الموروث العائلي الناتج عن المكانة الرفيعة لأسرة آل الصدر، ثانيا القاعدة الجماهيرية المنظمة المطيعة التي يمتلكها التيار الصدري، وثالثها الزعامة القوية لهذا التيار. ومع ذلك، تميز الخطاب الصدري بالتغيير المستمر الذي يصل إلى حد التناقض أحيانا، والصدريون يتحدثون دائما باسم الشعب دون الحاجة إلى أدوات دستورية أو قانونية تخولهم بذلك، وهم حريصون على تجاوز الحالة المذهبية في خطابهم، مع التركيز على الوطنية، فلا تغيب مفردة العراق والوطن عن أديباتهم، كما لا تخلو أي مناسبة من التأكيد على شيطنة الآخر والتذكير بقوة وقدرة التيار على معاقبته أو إقصاءه، والآخر لدى الخطاب الصدري ربما يكون المحتل أو السياسي الفاسد، أو الوزير المقصر.
التيار المدني العراقي هو التيار الذي جمع شيء من كل شيء، فهو الدائرة الوحيدة التي يقف داخلها الليبرالي مع الشيوعي، والبعثي مع الإسلامي. ومنذ أكثر من عقد قاد التيار المدني حملات إعلامية رافقتها احتجاجات قام بها أنصاره، وحاول المدنيون العراقيون التناغم مع موجة الربيع العربي وشن حملات كبيرة ضد الإسلام السياسي، لم تكتف بالدعوة إلى فصل الدين عن السياسة، بل دعت إلى إقصاء التيارات الإسلامية وإبعادها عن المشهد السياسي.
استخدم المدنيون بعض الأفكار الليبرالية في مغازلة الشارع ودعوا إلى الدولة المدنية أي دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية، وشككوا بالإسلاميين وانتقدوهم بشدة ورفعوا شعار (باسم الدين باكونا الحرامية)، وهو الشعار الذي يتهم الإسلاميين بالفساد وسرقة أموال الدولة. ومع ذلك، فشل الخطاب المدني الذي اتسم بالتناقض وغياب الهوية في أن يتحول إلى برنامج سياسي، أو تيار جماهيري، أو قوة انتخابية، ونجح في تصدير مدونين وشخصيات سياسية وإعلامية تقتصر جماهيريتها على وسائل التواصل الاجتماعي وبعض البرامج الحوارية في الفضائيات.
الخطاب التشريني هو خطاب جديد استمد اسمه من حراك تشرين- الذي اندلع في أكتوبر 2019، و استفاد من تجربة الحركات السياسة التي تم تناولها واستحوذ على اهتمام وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، فقد تمكن التشرينيون من كسب تعاطف الشباب العراقي بشعارات خرجت من القواعد التقليدية للخطاب السياسي العراقي، واستخدمت (اللغة المحكية) بدلا عن الفصحى التي يعتمدها الخطاب التقليدي. ويتسم الخطاب التشرينى بالتزمت وطنيا بشكل واضح ومعاداته لإيران ونظامها السياسي، لكنه متسامح إلى حد كبير مع حقبة البعث رجالا ورموزا وسياسة. ويدعوا الخطاب التشرينى إلى فكرة وطن واحد يتسامح مع الجميع لكنه يُقصي النخبة السياسية أو ذيول إيران
حاول التشرينيون الترويج لأنفسهم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ونجحوا في صناعة محتوى سياسي ثوري كفيل بكسب تفاعل وتعاطف الألاف من الشباب المحبط الباحث عن فرص أفضل للعمل والحياة، تحولت شعاراتهم من مطالبة بتحسن الخدمات إلى مطالبة بالقصاص من الفاسدين دون تحديد معايير واضحة للمحاسبة أو طرح بديل موضوعي للحكم والسلطة.
ثانياََ: الخطاب التعبوي
هو خطاب عاطفي مفعم بالعبارات الرنانة والجمل الأدبية ويتعزز أحيانا بالآيات القرآنية، والتذكير الدائم بالرموز المقدسة، كما أن من ميزة هذا الخطاب أن يكون مصحوبا ومعززا بالأناشيد والقصائد الحماسية أو الصور المؤثرة، ويقوم على التكرار و والتفنن في الأداء. تميز الخطاب التعبوي بانه عابر للحدود الجغرافية، يتسامى عن القضايا الاقتصادية والمعيشية التقليدية وهموم الحياة اليومية، أمام قضية يرى أنها أكبر واهم بكثير، يذكر الجماهير بمسألة محورية وهي تقديس السلاح، أو المقاومة، أو الرموز التاريخية والجهادية، أو تعزيز قيم التضحية.
والخطاب التعبوي ليس بالجديد على المشهد السياسي العراقي حيث برز بشكل جلي وواضح خلال الحرب العراقية الإيرانية، وتكرر في حروب وصراعات ومناسبات لاحقة، وبعد 2003 نجحت التعبئة المذهبية والطائفية في كسب الجماهير وحصد أصواتها الانتخابية خلال أكثر من دورة انتخابية وبالخصوص انتخابات 2005 وانتخابات 2014، لكن الصعود الذهبي لهذا الخطاب كان أيام الحرب على تنظيم داعش. أوضح مثال على هذا الخطاب هو خطاب تحالف الفتح.
ثالثاََ: الخطاب العقلاني
هو الخطاب الذي يدعو للحفاظ على الدولة وتدعيم مؤسساتها الدستورية وعبور الطائفية، وإرساء المصالحة والوئام المجتمعي، والتذكير بمجد العراق وبعض ما تحقق من نجاحات، ويقوم هذا الخطاب على دقة اختيار المفردات والتوازن بين المذاهب ومغازلة النخب وتعظيم دور القوات المسلحة الرسمية، مع تعزيز ثقة العراقيين بأنفسهم من خلال استذكار بعض الصور المشرقة للماضي.
وقد ائتلف كل من حيدر العبادي رئيس الوزراء السابق وعمار الحكيم رئيس تيار الحكمة في تحالف أطلقا عليه تحالف (قوى الدولة) تبنى هذا الخطاب بشكل واضح، ناهيك عن خطاب دولة القانون الذي رفع شعار (نعيدها دولة)، انتخابيا يقوم الخطاب العقلاني على دغدغة المشاعر المعيشية والوضع الاقتصادي والخدمات لقواعده الجماهيرية، وينقسم إلى قسمين الأول الخطاب العقلاني المتشدد، مثال عليه خطاب دولة القانون وبعض القوى الكردية والسنية، والخطاب العقلاني الناعم يستخدمه العبادي والحكيم وحركة الحكمة.
رابعاََ: الخطاب الإقصائي
وهو الخطاب الذي يقوم على استبعاد الأخر، أو الدعوة إلى إقصائه، وإيجاد الحجج والتبريرات لأجل هذا الإقصاء، وحقيقة أن للخطاب الإقصائي، جذور تمتد إلى بداية الثورات والانقلابات العراقية منتصف الخمسينات التي كانت تنتهجه بلغة كراهية واضحة ضد ما تسميه الاستعمار وأذنابه ثم تعايشت اللغة الإقصائية مع كل الحكومات الشمولية التي حكمت العراق. يقوم هذا الخطاب على تحميل النخب السياسية كل ما يحصل من فشل وفساد وخراب، ويصل أحيانا إلى تحميل قومية أو مذهب ديني بكامله تلك المسؤولية، وهو الذي أسهم في ترسيخ قناعة شعبية تقوم على أقران العمل السياسي بنهب الثروات الوطنية والخيانة والتبعية للأجنبي، وهي التهم الجاهزة التي يمكن توجيهها للسياسي، وقد ظهر هذا الخطاب بقوة بعد 2003 لدى القوى السنية المعارضة لمشروع بناء الديموقراطية.
إن التباين الكبير بين الخطابات الشعبية السائدة في العراق والتناقضات الداخلية التي تشوب تلك الخطابات التي يدعوا أغلبها إلى التشدد وتوظيف العنف، يمثل خطرا كيرا عل مستقبل العراق وربما يقود البلاد إلى نفق مظلم يتسبب في زعزعة الاستقرار في بلد عانى الكثير ولسنوات طويلة من ويلات الحروب والتناحر الداخلي. ومن ثم، يجب أن يكون هناك خطاب سياسي داخلي وخارجي عراقي موحد كالدول الأخرى يخدم توجهات ومصالح البلد ويتوافق مع ضوابط الدستور العراقي والقوانين الدولية وحسن الجوار وسياسة الأمم المتحدة والبرتوكولات العالمية بعيد عن التشنجات والعواطف التي لا تخدم العراق الجديد. ومع ذلك، ستتطلب صياغة مثل هذا الخطاب رفض النماذج السابقة وبناء طرق جديدة للتعامل مع الخطاب السياسي في العراق.