أوراق سياسات

بكين على القمة: كيف تعيد الصين صياغة النظام الدولي؟

لم يكن العرض العسكري الضخم الذي شهدته بكين مؤخرًا بمناسبة الذكرى الثمانين لانتهاء الحرب العالمية الثانية حدثًا عابرًا أو مجرد بروتوكول لإحياء ذكرى تاريخية. بل كان لحظة سياسية بامتياز، حملت رسائل متعددة للداخل والخارج في آن واحد. فمن العاصمة الصينية، وفي حضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، عرضت الصين أحدث ما وصلت إليه صناعاتها العسكرية، صواريخ فرط صوتية، طائرات مسيرة متطورة، وأنظمة دفاعية متقدمة. لم يكن الهدف فقط تذكير العالم بأن الصين قوة عسكرية صاعدة، بل الإعلان عن بداية مرحلة جديدة من إعادة صياغة التوازنات الدولية.

يُنظر إلى الصين اليوم على أنها العمود الفقري للنمو العالمي. فمع ناتج محلي إجمالي يقترب من تجاوز الولايات المتحدة في بعض المقاييس، باتت بكين تمثل شريكًا اقتصاديًا لا غنى عنه للدول النامية والمتقدمة على حد سواء، ولم يعد الاقتصاد الصيني رهينًا للتصدير كما كان في العقود الماضية، بل أصبح أكثر تنوعًا.

السوق المحلية الضخمة التي تضم مئات الملايين من المستهلكين صارت ركيزة أساسية، بينما يسجل قطاع الخدمات نموًا سريعًا يوازي في حجمه القطاع الصناعي التقليدي. كما تمتلك الصين ثروات طبيعية مهمة، مثل الفحم والمعادن الأرضية النادرة التي تُستخدم في الصناعات الإلكترونية الحديثة.

وفقًا لتقرير البنك الدولي الأخير، فإن “التحول الهيكلي في الاقتصاد الصيني يعزز مناعته أمام تقلبات الأسواق الدولية، ويمنحه قدرة أكبر على الصمود أمام الأزمات العالمية”. أما صندوق النقد الدولي فقد رفع توقعاته للنمو لعام 2025 إلى 4.8%، معتبرًا أن الصين “باتت المحرك الأساسي للاقتصادات الناشئة، وقاطرة للنمو العالمي.

إلى جانب ذلك، تُعتبر مبادرة “الحزام والطريق” نموذجًا على كيفية توظيف القوة الاقتصادية في خدمة النفوذ السياسي، إذ تربط الصين أكثر من 140 دولة بمشاريع بنية تحتية وتمويل واستثمارات، مما يمنحها تأثيرًا يتجاوز حدودها الجغرافية.

التكنولوجيا تمثل اليوم ميدان التنافس الأشد بين بكين وواشنطن. ورغم القيود الصارمة التي فرضتها الولايات المتحدة على تصدير الرقائق المتقدمة وأدوات الذكاء الاصطناعي، فإن الشركات الصينية نجحت في تطوير بدائل محلية.

العرض العسكري الأخير كشف عن قدرات متقدمة في الطائرات المسيّرة والأسلحة الفرط صوتية والفضاء، مما يبرهن أن الصين لم تعد في موقع “المقلّد”، بل أصبحت قوة مبتكرة. صحيفة فايننشال تايمز وصفت هذا التحول بأنه “بداية انتقال مركز الثقل التكنولوجي من الغرب إلى الشرق”.

وفي مجال الفضاء، أطلقت الصين محطتها الفضائية الخاصة “تيانجونغ”، كما تستعد لإطلاق بعثات مأهولة إلى القمر والمريخ. أما على صعيد الاتصالات، فهي تعمل على تطوير شبكات الجيل السادس (6G)، التي يُتوقع أن تمنحها تفوقًا تقنيًا يسبق الغرب بخطوات.

يبلغ عدد سكان الصين أكثر من 1.4 مليار نسمة، ما يمنحها سوقًا داخلية ضخمة وقوة عمل هائلة. صحيح أن هناك نقاشات واسعة حول مسألة الشيخوخة السكانية وتراجع معدلات المواليد، إلا أن الأرقام تشير إلى أن التركيبة السكانية الحالية ما تزال تمثل مصدر قوة.

صندوق النقد الدولي شدد في تقريره الأخير على أن “عائد الموهبة” في الصين – أي الاستثمار في رأس المال البشري عبر التعليم والبحث العلمي – أصبح محركًا رئيسيًا للنمو، ويمثل بديلاً طويل الأمد عن النمو الديموغرافي التقليدي. توسع الطبقة الوسطى، وارتفاع نسب التعليم الجامعي، وتحسن مستويات الدخل، كلها عوامل تساهم في تحويل المجتمع الصيني إلى قوة استهلاكية وإبداعية متزايدة.

لم يعد التنافس بين الصين والولايات المتحدة مقتصرًا على الاقتصاد أو السلاح، بل امتد إلى الثقافة والإعلام. فبينما كانت هوليوود لعقود نافذة أمريكا إلى العالم، بدأت بكين ترد بأدوات جديدة: إنتاج سينمائي ضخم يروج للقيم الصينية، منصات تواصل اجتماعي مثل “تيك توك” تنافس كبرى الشركات الأمريكية، واستثمارات إعلامية في أفريقيا وأمريكا اللاتينية تعكس نفوذًا متزايدًا.

التقارير الغربية تحذر من أن “القوة الناعمة الصينية تتنامى بسرعة، وتشكل تحديًا للنموذج الثقافي الغربي”. هذه النقلة تُظهر أن بكين لا تريد فقط السيطرة على الأسواق أو التكنولوجيا، بل تسعى لبناء سرديتها الخاصة وتقديم نفسها كبديل حضاري.

الولايات المتحدة وأوروبا تراقبان تطوّر الصين بقلق أكبر من أي وقت مضى. على الجانب المالي، تسعى بكين إلى تقويض هيمنة الدولار من خلال اليوان الرقمي ونظام المدفوعات CIPS كبديل لنظام “سويفت” الغربي. وفي الوقت نفسه، أصبح الاعتماد الاقتصادي متبادلاً لدرجة أصبحت فيها مواجهة الصين مكلفة للغاية.

هذا التشابك العميق يجعل الاتحاد الأوروبي في موقف بالغ الحساسية من جهة، يعتمد اقتصاده وصناعته وأسواقه الاستهلاكية بشكل متزايد على المنتجات الصينية، ومن جهة أخرى، يتعرض لضغوط أمريكية متصاعدة لتقليص التعاون مع بكين، خصوصًا في مجالات التكنولوجيا والاتصالات والطاقة. صحيفة فايننشال تايمز في تقرير سابق لها  وصفت هذا المأزق بقولها: “أوروبا أصبحت عالقة بين المطرقة والسندان: المطرقة الصينية التي تضمن لها النمو الاقتصادي، والسندان الأمريكي الذي يفرض عليها الانضباط الجيوسياسي”.

المكتب الإحصائي الرسمي للاتحاد الأوروبي  بأحد تقاريره  ذكر أنه في عام 2024، وصلت واردات الاتحاد من الصين إلى نحو 517.8 مليار يورو، مقابل صادرات بلغت 213.3 مليار يورو، ما ترك فجوة تجارية ضخمة تقارب 304.5 مليار يورو، ويمثل الاقتصاد الصيني نحو 21.3% من إجمالي الواردات الخارجية للاتحاد في تلك السنة.

 وبشأن المنتجات الأكثر استيرادًا،  نشر موقع OpenStats  في أحد تقاريره تحتل الأجهزة الكهربائية والإلكترونية والأدوات المكتبية والمعدات الاتصالاتية الصدارة، إذ شكّلت معًا نحو 39.3% من إجمالي واردات الاتحاد من الصين. هذا التغلغل العميق يجعل حياة المواطن الأوروبي – في باريس أو مدريد أو برلين أو فينا – كثيفة الالتصاق بالصين

الهواتف؛ الأجهزة المنزلية؛ الملابس الرخيصة؛ الألعاب؛ كلها ما تقتنيه الأسر الأوروبية بكثرة، وفي أعقاب التحول الأخضر، ظهرت ساحة صراع جديدة في قطاع السيارات الكهربائية والطاقة المستدامة، ففي عام 2023، قفزت حصة السيارات الكهربائية الصينية في السوق الأوروبية من 3.9% فقط عام 2020 إلى نحو 25% بحلول سبتمبر 2023 .

وهذا التوسع السريع دفع الاتحاد إلى فرض رسوم جمركية جديدة، تصل إلى 35.3% على بعض السيارات الصينية، لحماية صناعة السيارات المحلية . بالإضافة إلى ذلك، تسيطر الصين على أكثر من 80% من إنتاج الألواح الشمسية عالميًا و60% من بطاريات الليثيوم الضرورية للسيارات الكهربائية وتخزين الطاقة.

هذا الوضع خلق مخاوف بأن أوروبا وأمريكا أصبحتا عميلتين تقنيًا لمستلزمات الطاقة الخضراء المنخفض التكلفة والتي تتحكم بها بكين. وفي هذا السياق، وصفت مجلة الإيكونوميست المشهد الأوروبي القلق قائلة ” أوروبا تخشى أن تخسر معركتها الثانية أمام الصين بعد الإلكترونيات، قد تكون السيارات هي الضربة القاضية”.

  إن المخاوف الغربية اليوم تتعدى حدود القوة العسكرية أو التنافس التكنولوجي، لتصل إلى ما يشبه “اعتماد استراتيجي”أوروبا والولايات المتحدة تجدان في المنتجات الصينية الأسهل والأرخص ما يستقطب المستهلك، بينما التجارب السياسية للتقليص من هذا التبعية تصطدم بواقع اقتصادي يجعل المواجهة مكلفة للغاية، أما في الولايات المتحدة، فإن الوضع لا يختلف كثيرًا. فالصين ما زالت أكبر مصدر للسلع إلى السوق الأمريكية.

حيث بلغت قيمة الواردات الأمريكية من الصين نحو 430 مليار دولار في 2023، رغم الحرب التجارية التي أطلقها الرئيس السابق دونالد ترامب. الأمريكيون أيضًا يعتمدون على المنتجات الصينية في حياتهم اليومية من الإلكترونيات الرخيصة إلى الأثاث والملابس وحتى المكونات الأساسية في الصناعات التكنولوجية المتقدمة. وهو ما يجعل أي مواجهة اقتصادية شاملة مع بكين مكلفة للغاية للولايات المتحدة نفسها.

ما جرى في بكين لم يكن مجرد احتفال بذكرى تاريخية، بل إعلان عن رؤية جديدة للعالم. فالصين اليوم لا تطرح نفسها فقط كقوة اقتصادية، بل كقوة شاملة قادرة على صياغة بديل للنظام الدولي القائم على الهيمنة الأمريكية.

الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أشار في أكثر من مناسبة إلى أن “مشاركة الصين ضرورية لحماية التعددية، وإعادة التوازن إلى النظام الدولي”. هذه الكلمات تلخص التحول الجاري: لم يعد السؤال هل ستقود الصين العالم، بل كيف ومتى وبأي صيغة.

إذا واصلت الصين مسارها الحالي، فمن المرجح أن يشهد العالم خلال العقد المقبل تحولات جذرية. أولها تراجع تدريجي في هيمنة الدولار لصالح عملات أخرى في التجارة الدولية. ثانيها بروز آسيا كمركز رئيسي للتكنولوجيا والابتكار. ثالثها إعادة رسم التحالفات، بحيث تصبح روسيا والصين ومعهما دول مثل إيران وتركيا ودول في أفريقيا وأمريكا اللاتينية نواة لمحور مضاد للغرب.

وفي هذا السياق، قد يصبح النظام العالمي أقرب إلى تعددية قطبية، حيث تتقاسم الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي وروسيا موازين القوة، مع مساحات أكبر لدور المنظمات الإقليمية مثل “بريكس” ومنظمة شنغهاي.

إن العرض العسكري في بكين لم يكن مجرد مشهد احتفالي، بل بداية مرحلة جديدة، عنوانها: الصين لم تعد تتأهب للصعود، بل أصبحت بالفعل على قمة المشهد الدولي، تنافس وتزاحم وتكتب معالم قرن جديد قد لا يكون أمريكيًا كما كان القرن الماضي، بل متعدد الأقطاب، تتصدره بكين بثقة وقوة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى