
سقوط الفاشر.. أي تداعيات على المشهد الليبي؟
عماد عنان
فتحت التطورات الأخيرة في المشهد السوداني بابًا واسعًا لارتدادات إقليمية قد تتجاوز الإطار المحلي الضيق، خصوصًا في ظل التحولات الدراماتيكية الجارية في الفاشر وغرب دارفور، فالتعاطي مع ما يجري هناك باعتباره شأنًا داخليًا سودانيًا لم يعد ممكنًا، إذ إن طبيعة الجغرافيا السياسية والبُنى الشبكية للصراع المسلح في المنطقة تجعل من هذه التحولات عاملًا مُعادِلاً في إعادة تشكيل التوازنات السياسية والأمنية في شمال أفريقيا ودول الساحل على حد سواء.
وقد دفعت المؤشرات الأولية المتسارعة حول سقوط الفاشر في يد قوات الدعم السريع، العديد من دوائر المتابعة الأمنية والاستراتيجية لتوجيه النظر نحو دول الجوار المباشر وغير المباشر، وعلى رأسها ليبيا التي تُعد الأكثر عرضةً للتأثر المباشر بهذه التطورات، حيث كانت تاريخيًا منطقة استقبال وتفاعل مع موجات الصراع السوداني، ليس فقط سياسيًا بل على مستوى تدفقات السلاح والتهريب والمرتزقة.
هذا التخوف لا يأتي من فراغ، بل يرتكز على وقائع ممتدة تعود لـ 14 عامًا مضت، حيث ظلت خطوط التسلل والتهريب الممتدة من دارفور إلى الكفرة جنوب شرق ليبيا، ثم إلى فزان جنوب غربها، واحدة من أكثر مسارات التجارة غير الشرعية نشاطًا منذ عام 2011، هذه الشبكات العابرة للحدود لم تُغلق في أي مرحلة، بل كانت تستعيد زخمها كلما اشتدت الصراعات الداخلية داخل السودان.
يُضاف إلى ذلك أن استمرار محمد حمدان دقلو (حميدتي) – الحليف الوثيق لخليفة حفتر وميليشياته – في توسيع نطاق عملياته نحو كردفان وغيرها، يرفع مستوى القلق حول احتمالات تحوّل الصراع في السودان إلى بنية صدام إقليمي مفتوح، مع ارتفاع احتمالات تأثيره المباشر على منظومة السيطرة والنفوذ داخل ليبيا، سواء عبر إعادة توزيع الميليشيات، أو عبر تدفق السلاح، أو عبر إعادة تفعيل شبكات التجارة السوداء العابر للحدود.
وهنا تساؤل يفرض نفسه بقوة: ما هي ملامح شكل التأثير المتوقع على ليبيا؟ وهل نحن أمام مجرد امتداد أمني ظرفي، أم أمام تفاعل بنيوي قادر على إعادة تشكيل مراكز القوة داخل الجنوب الليبي وربما إعادة إنتاج خارطة اصطفافات وتحالفات جديدة؟
حفتر – حميدتي.. شبكة تحالف معقدة
قبل محاولة تفكيك التداعيات المباشرة لما يجري في الفاشر، يصبح من الضروري أولًا استحضار شبكة التحالفات المتشابكة التي تربط قائد قوات الدعم السريع بمحور خليفة حفتر في ليبيا، وهي شبكة تتجاوز الطابع الثنائي التقليدي، لتتحول إلى بنية نفوذ وتلاقي مصالح إقليمية واسعة، تُخرج المشهد من كونه صراعًا سودانيًا خالصًا إلى حالة صدام إقليمي مفتوح يتداخل فيه البعد الليبي مباشرة.
منذ اللحظة الأولى لاندلاع حرب الجنرالات في أبريل/نيسان 2023، ظلت الاتهامات متواصلة تجاه قوات حفتر بتقديم دعم لوجستي وعسكري لحميدتي وميليشياته، أحيانًا بصورة مباشرة، وفي أحيان أخرى عبر قنوات تمويل وتزويد غير مباشرة، أبرزها القناة الإماراتية، ورغم النفي المتكرر من الأطراف المعنية، فإن ما تراكم عبر العامين الأخيرين من دلائل عملياتية وشهادات ميدانية، يعزز فرضية انخراط الليبيين والإماراتيين في مسار دعم حميدتي.
هذا المسار لم يعد مجرد تقديرات استخباراتية أو تسريبات، بل تحول إلى معلومات مُوثقة في تقارير صحفية دولية. ففي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، نشرت “وول ستريت جورنال” تقريرًا كشف عن استخدام الإمارات الأراضي الليبية كمنصة لوجستية لنقل أسلحة إلى قوات الدعم السريع، في تجاوز صريح للحظر الدولي المفروض على نقل السلاح للسودان، وشمل الدعم وفق التقرير مسيرات CH-95 المتطورة، إضافة لأسلحة ثقيلة وذخائر متنوعة، وهو دعم نوعي مكّن قوات حميدتي من استعادة زخم عملياتي بعد سلسلة انتكاسات عسكرية.
ولم يقف الأمر عند السلاح فقط، إذ كشفت صحيفة “التلغراف” البريطانية قبل ذلك بأسابيع عن وجود مئات المرتزقة الكولومبيين الذين تم تجنيدهم عبر عقود عمل وهمية داخل الإمارات، قبل نقلهم إلى ليبيا ثم دارفور، في عملية معقدة تشير إلى وجود هندسة شبكية عابرة للحدود في إدارة الموارد البشرية القتالية لصالح قوات الدعم السريع.

هذه الشهادات جاءت متقاربة مع أدلة قدمتها الحكومة السودانية لمجلس الأمن، تتهم الإمارات بتنسيق عمليات نقل المرتزقة عبر الصومال وليبيا وصولًا للسودان، تحت إشراف ضباط محسوبين على خليفة حفتر.
إلى جانب ذلك، وثّقت مصادر ليبية في أبريل/نيسان 2023 رحلات لطائرات IL-76TD تابعة لحفتر أقلعت من الخُروبة نحو الكفرة قرب الحدود السودانية محمّلة بعتاد عسكري، وهو مؤشر إضافي على وجود مسار دعم ميداني مباشر.
هذه المنظومة من الوقائع المتراكمة تجعل الحديث عن حرب داخل السودان معزولًا عن الفضاء الليبي غير واقعي، فشبكات الدعم والتمويل والتجنيد الممتدة بين دارفور والكفرة وفزان تحوّل ليبيا إلى طرف غير مباشر لكنه فعّال في مسار الحرب، بما يجعل أي تطور استراتيجي في غرب السودان عاملًا ضاغطًا قادرًا على إعادة تشكيل خرائط القوة داخل ليبيا نفسها في المدى القريب.
السودانيون والحاضنة الليبية
وفقًا لاتفاق جوبا للسلام الموقّع بين الحكومة الانتقالية السودانية و«الجبهة الثورية» في أكتوبر/تشرين الأول 2020، نشأت معادلة جديدة في توزيع القوى، لم تقتصر نتائجها على الداخل السوداني فقط، بل امتد أثرها إلى الجغرافيا الليبية.
فالاتفاق الذي منح مكونات الجبهة الثورية امتيازات سياسية واسعة داخل هياكل الحكم الانتقالي – من مقاعد في مجلس السيادة إلى حقائب وزارية ومناصب إقليمية – كان ثمنه الأساسي خروج آلاف المقاتلين من ساحة الفعل العسكري داخل السودان وتوجههم إلى ليبيا للإقامة هناك، في محاولة لإعادة إنتاج مسار تهدئة نسبي في دارفور بعد عقدين من النزاع.
غير أن الحرب المندلعة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع أعادت خلط الأوراق ووضعت الاتفاق نفسه على حافة الانهيار، بعدما كان يُراهن عليه كأداة لاستعادة التوازن والاستقرار في الإقليم الغربي.
وفي نهاية 2023، ظهرت نتائج هذا الارتداد بشكل مباشر، مع عودة أعداد كبيرة من المسلحين الذين كانوا في ليبيا إلى الفاشر استعدادًا لمواجهة الهجمات المرتقبة من ميليشيا الدعم السريع، وقد أعلنت القوة المشتركة التابعة للحركات الموقعة على اتفاق السلام بدء نشر قواتها في شمال دارفور لحماية المدنيين، ما يعنى عودة عسكرية جديدة إلى مسرح صراع كان يفترض أنه خرج منه.
لكن الأهم أن هذه العودة لم تكن كلية، فشرائح واسعة من المسلحين، إلى جانب عشرات الآلاف من النازحين السودانيين، ما زالوا موجودين في جنوب ليبيا، وهو ما يجعل العلاقة بين ليبيا ودارفور علاقة مفتوحة ومستمرة، لا علاقة لحظة مؤقتة.
هذا الامتداد الديموغرافي – العسكري والإنساني معًا – يعمّق التشابك البنيوي بين الساحتين، ويُبقي ليبيا طرفًا حاضرًا موضوعيًا في المعادلة السودانية، سواء أرادت ذلك أم لم ترده، ما يعني أن أي تطور ميداني في غرب السودان سيظل يحمل في داخله احتمالات اندفاع ارتدادية نحو الأراضي الليبية أيضًا.
التداعيات على المشهد الليبي
في ضوء خريطة التشابكات الإقليمية التي باتت تُقحم ليبيا قسرًا داخل معادلة الصراع السوداني، وبالنظر إلى مسار التحالف الوثيق والممتد بين حميدتي وحفتر وميليشياتهما، والدعم المتبادل الذي تم بناؤه وتطويره عبر السنوات، يصبح من الممكن قراءة الارتدادات المحتملة لتطورات الفاشر ودارفور على ثلاثة مستويات أمني، سياسي، واقتصادي.
أولًا: على المستوى الأمني
إذا تمكنت ميليشيا الدعم السريع من فرض سيطرتها الكاملة على الفاشر، فإن أحد أبرز النتائج المباشرة سيكون ارتفاع معدلات انتقال المرتزقة بين السودان وليبيا، فالدعم السريع بطبيعتها ليست حركة مسلحة ذات تصور تقليدي للدولة، بل تستند إلى نموذج توسّع عسكري اقتصادي عابر للحدود، يعتمد على الموارد والمنافع وشبكات الربح السريع أكثر مما يعتمد على منطق بناء مؤسسات دولة مركزية.
وتزداد احتمالات هذا التدفق في ظل هشاشة البيئة الأمنية الليبية، خصوصًا في الجنوب، حيث تتكاثر الميليشيات وتتداخل مسارات السيطرة، في الوقت الذي ترتبط فيه البنية القبلية في دارفور بتشابكات تاريخية مع قبائل في ليبيا وتشاد.
يضاف إلى ذلك أن ليبيا قد تشهد خلال 2025-2026 حالة إعادة تشكيل سياسية وأمنية تتطلب قوة مقاتلة موازنة أو رديفة، ما يجعل الطلب على هذه القوة البشرية المسلحة متوقعًا ومتزايدًا.
في هذا السياق يمكن أن تتحول منطقة فزان في جنوب ليبيا إلى ساحة مفتوحة لتجارة المرتزقة بين عدة أطراف إقليمية، أبرزها روسيا والإمارات وتشاد ومصر، بما يجعل الجنوب الليبي مرشحًا لأن يصبح مسرحًا لبؤرة اشتعال إضافية، خاصة مع قابلية العامل القبلي لأن يتحول من مجرد عنصر مساعد إلى عنصر مفسر ومحرك للصراع، بفعل صلات القربى والتحالف والامتداد بين قبائل دارفور وقبائل الجنوب الليبي.
في السياق ذاته على الصعيد الأمني، من المتوقع أن تؤدي التطورات في الفاشر إلى موجات نزوح وهجرة جديدة، خصوصًا مع سيطرة ميليشيا الدعم السريع على المدينة، فالسقوط المحتمل للفاشر سيؤدي إلى تدفق المدنيين نحو تشاد وليبيا، لتتحول الأراض الليبية بعد ذلك إلى محطة عبور رئيسية في مسارات الهجرة غير النظامية إلى أوروبا.
هذا التحول سيضع ضغوطًا متزايدة على الاتحاد الأوروبي، حيث سينقل التركيز والتأثير مباشرة نحو حكومة طرابلس، بدلًا من مصر، ويبرز بذلك البعد الإقليمي للأزمة السودانية وتأثيراتها المتشابكة على الاستقرار الأمني والهجرات العابرة للحدود.
ثانيًا: على المستوى الاقتصادي
في عقيدة تشكيل الميليشيات، يختلط البعد الأمني بالبعد الاقتصادي بشكل عضوي، بحيث يصبح الاقتصاد المحرك الأساسي للقوى غير النظامية. وفي حالة الترابط السوداني-الليبي، يبدو هذا الخلط أكثر حدة وتعقيدًا، إذ تحولت ليبيا على مدار السنوات الماضية إلى بوابة رئيسية لتهريب الذهب الذي تستولي عليه ميليشيات حميدتي من دارفور، لتصديره لاحقًا إلى الإمارات وروسيا، بما يدر عوائد تُعاد إنفاقها على تمويل الميليشيات وتعزيز نفوذها العسكري.
وبناءً على ذلك، فإن سقوط الفاشر في قبضة قوات الدعم السريع سيؤدي على الأرجح إلى تصاعد تدفقات الذهب نحو ليبيا وإعادة تدويره هناك، فالفاشر تمثل مفصلًا رئيسيًا في شبكة ذهب دارفور المُصدّر للخارج، وسيُتيح سيطرة حميدتي على المدينة توسيع خطوط النقل عبر معابر مثل العوينات وأم الأرانب وطريق الكفرة، لتصبح ليبيا محطة مركزية لتكرير الذهب وإعادة تصنيفه وتحويله قبل شحنه إلى الخليج.
هذا السيناريو يعكس تفاعلًا أمنيًا-اقتصاديًا معقدًا، إذ يتحول المورد الطبيعي – الذهب – إلى أداة استراتيجية لتعزيز قدرة الميليشيات على الاستمرار في النزاع، مع خلق آليات ضغط إضافية على الداخل الليبي والخليجي، ويؤكد أن أي تحولات في الفاشر لا تقتصر على البعد العسكري بل تمتد لتشمل شبكات اقتصادية دولية مترابطة.
ثالثًا: على المستوى العسكري
مع توسع سوق المرتزقة وفتح مسارات الحركة بين السودان وليبيا وتشاد، لاسيما في حال سقوط الفاشر في قبضة الدعم والسيطرة على إقليم دارفور بشكل كامل، يصبح الحديث عن توحيد المؤسسة العسكرية الليبية وإقامة جيش وطني موحد أمرًا يفتقد للموضوعية، حيث تتراجع فرص تنفيذ هذا المشروع عمليًا في ظل الضغوط المتوقعة على هذا الملف.
ففي ظل تباين الرؤى داخل المؤسسة العسكرية الليبية وتعدد الجماعات المسلحة والمرتزقة القادمين من السودان وربما تشاد، يلجأ كل طرف ليبي إلى توظيف هذه المجموعات بما يخدم أهدافه الخاصة، ما يزيد من الهوة بين الشرق والغرب الليبي بشأن التعاطي مع المرتزقة.
كما يتوقع أن تتفاقم الخلافات حول أي المجموعات ينبغي ضمها وأيها يجب استبعادها، بما يجعل مسار توحيد الجيش الوطني أكثر هشاشة وتعقيدًا، ويعكس كيف أن الديناميات الإقليمية للمرتزقة مرتبطة مباشرة باستقرار ليبيا الداخلي.
رابعًا: على المستوى السياسي
فتح التمازج بين القوى السودانية بقيادة حميدتي والليبية بقيادة حفتر الباب أمام التدخلات الأجنبية، لتصبح اليوم أكثر وضوحًا وعلنية، بعدما كانت هذه الأجندات تتحرك في السابق بحذر وخفاء، وتأتي على رأس هذه القوى الإمارات وروسيا (عبر ميليشا فاغنر)، اللتان ترتبط مصالحهما النفطية والذهببية بمناطق النفوذ في السودان وليبيا، ما يمكّنها من توسيع حضورها وتأثيرها دون الحاجة للتستر على أهدافها الاستراتيجية.
ومع تعاظم هذه المصالح، يصبح من الطبيعي زيادة التدخل المباشر لكل من موسكو وأبو ظبي في الشؤون الداخلية الليبية، في حين قد يرى حفتر وميليشياته في ذلك وسيلة لتعزيز حكمه وتثبيت موقعه في صراع النفوذ مع حكومة الغرب الليبي، هذا التوازن بين الدعم الخارجي والأجندات المحلية يجعل توسع القوى الأجنبية أمرًا مقبولًا وواقعياً.
أما على المدى الطويل، قد تتحول ليبيا إلى نقطة محورية لصراع نفوذ روسي-أمريكي مباشر، خصوصًا إذا تدخلت قوى إقليمية أخرى مرتبطة جيوسياسيًا بالمشهد الليبي، مثل مصر وتركيا، هذه البيئة المتشابكة تخلق ساحة مفتوحة لجميع الاحتمالات والأجندات، ما يزيد من تعقيد المشهد ويقوّض أي مبادرات سابقة لتحقيق الاستقرار، ويجعل الأزمة الليبية أكثر تعقيدًا وتشابكًا مع التحولات الإقليمية والدولية المحيطة.
في الأخير تكشف تلك التطورات كيف أن التشابك بين مصالح ميليشيات حميدتي وقوى حفتر، إلى جانب تدخلات دولية مثل الإمارات وروسيا، من الممكن أن يعيد تشكيل موازين القوى في المنطقة، ويجعل أي تطور ميداني في السودان عامل ضغط محتمل على ليبيا، مما يبرز هشاشة اتفاقيات السلام المحلية، ويؤكد أن الأزمة السودانية لم تعد مجرد صراع داخلي بل جزء من شبكة معقدة للتأثيرات الأمنية والسياسية والاقتصادية العابرة للحدود.
وعلى المدى المتوسط والبعيد، قد تتحول ليبيا إلى ساحة مفتوحة لتنافس نفوذ دولي مباشر، لتبرهن الصراعات الحالية في غرب السودان وفزان والجنوب الليبي أنها ليست منعزلة، بل هي جزء من ديناميات إقليمية مترابطة تهدد إعادة إنتاج خارطة تحالفات ونفوذ جديدة، وتفرض على صانعي القرار ضرورة إعادة تقييم الاستراتيجيات الأمنية والسياسية في شمال أفريقيا والساحل.



