“شراء السلام”..هل يعيد غزو أوكرانيا قواعد اللعبة الجزائرية القديمة؟
على الرغم من أنه بالإمكان تفهُّم موجة المبادرات الغربية، إلّا أنه من غير المرجح أن تعوّض الجزائر عن فجوات إمدادات الطاقة إلى أوروبا أو تتخذ إجراءات أخرى تعطي الانطباع بأنها تنحاز إلى أحد الأطراف.
*جيف بورتر
منذ بداية هذا العام، ومع تصاعد التهديدات الروسية ضد أوكرانيا وبلوغها مرحلة الغزو، استضافت الجزائر زيارات غير عادية للغاية لوزراء خارجية عدة دول، بلغت ذروتها بالإعلان عن زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في 30 آذار/مارس. كما تتزامن المصالح الأمريكية والأوروبية المتجددة مع عودة الجزائر إلى الاستقرار السياسي بعد سنوات من عدم اليقين. ونظراً إلى ضغوط الحرب المؤدية إلى ارتفاع أسعار الطاقة واحتمال ارتفاعها بصورة أكثر إذا تعطّلت إمدادات الطاقة الروسية إلى أوروبا، فلا يمكن للجزائر أن تبقى خاسرة.
وإذا زادت صادراتها من الطاقة إلى أوروبا، فستعزز عائداتها بشكلٍ كبيرٍ؛ وإذا لم يحدث تغيير في هذا الصدد، فتستمر في الاستفادة من أسعار الطاقة التي سجلت أعلى مستوياتها منذ عقدٍ ونصفٍ من الزمن. فكيف شقت الجزائر طريقها إلى مثل هذا الموقع المواتِ، وما هي التداعيات التي يحملها موقفها على السياسة الغربية بشأن أوكرانيا؟
الاستقرار المحلي
تُعتبَر الظروف الداخلية في الجزائر الأكثر استقراراً منذ خمس سنوات، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى قيام الحكومة بإنهاء نزعة “الاستيلاء على الدولة” التي اتسمت بها السنوات الأخيرة من إدارة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. فخلال تلك الفترة، تآلف شقيق بوتفليقة الأصغر سناً سعيد مع الأوليغارشيين من كل فئة، ومنحهم صفقات غير شرعية في العديد من القطاعات. واليوم، يقضي هو وهؤلاء الأوليغارشيون أحكاماً بالسجن لفترات طويلة.
وفي الخلفية تظهر أيضاً حالة عدم اليقين التي أحدثتها دعوات حركة “الحراك” إلى تقويض النظام السياسي الجزائري تماماً، فضلاً عن شكوك الحكومة الانتقالية بزعامة الرئيس الراحل عبد القادر بن صالح. وعندما خلف الرئيس عبد المجيد تبون، بن صالح في كانون الأول/ديسمبر 2019، نفّذ خارطة الطريق الخاصة به نحو “الجزائر الجديدة”، التي كان ينوي الخروج من خلالها من الجزائر “القديمة” في عهد بوتفليقة، وإضفاء الطابع المؤسسي على القيم التي طالب بها متظاهرو “الحراك”. ورغم أن انخفاض معدلات المشاركة والتشكيك الشعبي جعلا خطته أقل نجاحاً مما تصوره، إلا أنها أسفرت عن صياغة دستور جديد وقيام انتخابات تشريعية، أعقبتها انتخابات محلية وبلدية.
وساعدت هذه التطورات في كبح الصراعات الخفية على السلطة التي طالما كانت السمة المميزة في السياسة الجزائرية.
وسواء كان هذا التحوّل مؤقتاً أم دائماً، فقد انتهز الرئيس تبون الفرصة ليحكم فعلياً. فقد بدأ بتعزيز السياسات والتدخل في جدول الأعمال التشريعي، وعلى الرغم من أن تدخلاته لا تسفر دائماً عن أفضل النتائج، إلّا أن مجرد واقع قيامه بتوجيه السلطة التنفيذية في الجزائر هو علامة على التقدم. وأصبحت البلاد الآن قادرة على معالجة النقاشات التي طال انتظارها حول إصلاح الدعم، وقانون الاستثمار الجديد، والاقتصاد غير الرسمي.
ويقيناً، الوضع الاقتصادي لا يزال صعباً بالنسبة للعديد من الجزائريين. فقيمة الدينار تتدهور، وأسعار المواد الغذائية آخذة في الارتفاع، وآفاق التوظيف قاتمة. ومع ذلك، تُعيد عائدات النفط والغاز الطبيعي ملء خزائن الجزائر بعد هبوط دام فترة طويلة – من أكثر من 200 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي في عام 2012 إلى حوالي 40 مليار دولار في عام 2021. وكنتيجة لذلك، من المرجح أن يعيد الرئيس تبون إحياء قواعد اللعب القديمة التي اتبعها بوتفليقة والمتمثلة في “شراء السلام”. فقد تم تأجيل إصلاح الدعم، ويتم الدفع المباشر للعاطلين عن العمل.
وطالما تبقى أسعار الطاقة مرتفعة، فمن المرجح أن تنجح الحكومة في دفع الأجور المتأخرة لعمال القطاع العام، وزيادة أجورهم، وربما رفع الحد الأدنى للأجور. ويمكن أن يؤدي ضخ كل هذه السيولة في الاقتصاد إلى تسريع التضخم بالنظر إلى عدم امتلاك الدولة لأي وسيلة لاستيعابها بأجمعها، لكن هذه مقامرة يبدو أن تبون على استعداد لخوضها.
تأثير محدود على الغاز وروسيا
بعد أن استقرت الظروف الداخلية للجزائر، بدأت البلاد تحرز تقدماً في السياسة الخارجية. فقد سعى عدد كبير من الدبلوماسيين إلى مقابلة الرئيس تبون، من بينهم وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس في كانون الثاني/يناير، ووزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو في شباط/فبراير، واثنان من أبرز الزوار هذا الشهر هما: نائبة وزير الخارجية الأمريكي ويندي شيرمان ووزير الخارجية البرتغالي أوغوستو سانتوس سيلفا. وفي أعقاب زيارة الوزير بلينكن المقررة في 30 آذار/مارس، سيتوجه رئيس الوزراء الفرنسي جان كاستكس إلى الجزائر في وقتٍ ما في الأسابيع المقبلة وفقاً لبعض التقارير، بينما من المتوقع أن يصل وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة إلى واشنطن في نيسان/أبريل.
الدافع الرئيسي وراء هذه الزيارات هو دور الجزائر كمورّد للطاقة إلى الاتحاد الأوروبي. وتريد واشنطن والعواصم الأوروبية تأكيدات بأنه حتى إذا أثبتت حكومة تبون عدم رغبتها في زيادة هذه الصادرات، فإنها ستقوم بشكل موثوق بتسليم الكميات التي التزمت بها أساساً، خاصة إذا انقطعت الإمدادات الروسية. ومع ذلك، يشعر القادة الغربيون بالقلق بشأن علاقات البلاد مع موسكو.
وحتى الآن، أكدت الجزائر للعملاء مراراً وتكراراً أنها تشكل مصدراً آمناً للطاقة وأنها ستفي بعقود توريد الغاز إلى أوروبا. ومع ذلك، فإن الأمر الأقل وضوحاً هو ما إذا كان بإمكانها زيادة هذه الإمدادات على المدى القريب. وقد بلغت صادراتها أساساً كامل طاقتها عبر خطَيْ أنابيب وأربعة خطوط أخرى للغاز الطبيعي المسال.
ومن الناحية النظرية، تملك الجزائر احتياطياً سنوياً يتراوح ما بين 700-800 مليون متر مكعب، وكانت قد أعطته سابقاً إلى المغرب كرسوم عبور لـ “خط أنابيب الغاز بين المغرب العربي وأوروبا”. وفي تشرين الثاني/نوفمبر الماضي أغلقت هذا الخط رداً على حملة التجسس السيبراني المغربية، لكي يصبح بإمكانها نظرياً تصدير هذه الكميات إلى إسبانيا أو إيطاليا عبر خطَي الأنابيب الآخرين اللذين تملكهما. ومع ذلك، فإن الكميات المعنية ليست ذات أهمية في نهاية المطاف للأزمة الحالية. فعلى سبيل المثال، وفقاً لـ “الوكالة الدولية للطاقة” استورد الاتحاد الأوروبي 155 مليار متر مكعب من الغاز من روسيا في العام الماضي وحده.
ويتمثل الخيار النظري الآخر في قيام الحكومة مؤقتاً بتقليص كميات الغاز التي تزوّدها للصناعات المحلية، والعديد منها مملوك للدولة، من أجل تحرير كميات إضافية للتصدير. لكن ذلك قد يعني تباطؤ النشاط الصناعي المحلي مقابل زيادة الإيرادات من العملة الصعبة – وهي مقامرة غير محتملة ومحفوفة بالمخاطر السياسية. كما يمكن أن يؤدي ذلك إلى إعادة توجيه بعض الغاز الذي تضخه البلاد في حقول النفط الناضجة للحفاظ على ضغط الخزانات، لكن هذا من شأنه أن يتسبب في انخفاض فوري في إنتاج النفط. ومع تداول خام “مزيج صحارى بلند” الجزائري بحوالي 124 دولاراً للبرميل الواحد، فسوف تأخذ الحكومة فعلياً الموارد من أحد الأطراف لإعطائها إلى طرف آخر.
باختصار، تَعلم الجزائر أنها لا تملك كميات إضافية كبيرة وجاهزة للتصدير، لكن لا يزال بإمكانها الاستفادة من الاهتمام الإضافي الذي تحظى به من أجل زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر على المدى الطويل. فقد عانت البلاد من نقص الاستثمار في المنبع لما يقرب من عقد من الزمن، وتحتاج إلى التعويض عن الوقت الضائع. وتحقيقاً لهذه الغاية، يعمل وزير الطاقة محمد عرقاب والرئيس التنفيذي لشركة الطاقة الوطنية “سوناطراك” توفيق حقّار، على قدمٍ وساقٍ، فيبعثان الرسالة نفسها ويروّجان لإمكانات الطاقة الآمنة في الجزائر لأكبر عددٍ ممكنٍ من الوفود الزائرة.
قيل الكثير عن العلاقات الجزائرية مع موسكو. فالبلاد تشتري أساساً الكثير من المعدات العسكرية الروسية، لكن ذلك يعود إلى أن الكرملين يبيعها إلى الجزائر من دون شروط. بالإضافة إلى ذلك، اشترت البلاد معدات من بلدان أخرى كلما شعرت بالحاجة إلى ذلك – على سبيل المثال، يضم أسطولها البحري سفناً صينية وفرنسية وألمانية وإيطالية بالإضافة إلى طائرات ذات أجنحة دوارة بريطانية وإيطالية.
وعلى نطاقٍ أوسع، لم تنخرط الجزائر أبداً تقريباً في دبلوماسية المقايضة؛ فما أن تتخذ موقفاً في السياسة الخارجية، فهي تميل إلى التمسك به بقوة. وفي أغلب الأحيان، يركز هذا الموقف على تقديم نفسها كحكَم محايد في النزاعات الدولية بدلاً من الانحياز إلى أحد الأطراف. ولا يختلف هذا الأمر بالنسبة إلى الحرب في أوكرانيا، حيث ستسعى الجزائر للبقاء بعيداً عن الأزمة تماماً، ولن تشعر بأنها مدينة بالفضل لموسكو لمجرد أنها اشترت عتاداً عسكرياً روسياً. وقد تكون الحكومة على استعداد للمساعدة في التوسط من أجل وقف إطلاق النار، لكنها تدرك في النهاية أن الانخراط قد يؤدي إلى تصورات بأنها تنحاز إلى طرف ما على حساب الطرف الآخر، في حين لا تصطف الجزائر مع أي منهما.
وبالنظر إلى هذا الامتناع عن الانخراط في دبلوماسية الصفقات، فللولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي خيارات قليلة متاحة أمامهما للحصول على ما يريدانه من الجزائر. بإمكان الحكومة استضافة وفود أجنبية متعددة واستقبال مبادراتها، لكنها قد تقرر في النهاية أن عدم الانخراط يصب في مصلحة الجزائر – وهو ما قد يكون صحيحاً للغاية. وحتى إذا لم تقم الحكومة بإجراء أي تغييرات على سياساتها التصديرية، فإن أرباحها الهيدروكربونية في طريقها للوصول إلى أعلى مستوى لها منذ عام 2008، عندما سجلت “سوناطراك” إيرادات سنوية بلغت 72 مليار دولار.
ومع انجراف تونس نحو الاستقطاب السياسي، وبلوغ ليبيا عتبة الحرب الأهلية، ومواجهة مالي حالة من عدم الاستقرار الشديد، على واشنطن أن تدرك قيمة الاستقرار السياسي والاقتصادي المستعاد في الجزائر. وفي الأزمة الحالية، يعني ذلك احترام حسابات الحكومة بشأن وضعها في الداخل، ودعم موقفها المفضل كوسيط سلام في النزاعات الخارجية.