قضايا وتحليلات

“عض قلبي ولا تعض سيجارتي”.. كيف تحوّل تدخين المصريين من عادة إلى اقتصاد قائم بذاته

“عض قلبي ورغيفي ولا تعض سيجارتي” عبارة تتردد كثيرًا في الشارع المصري كلما طُرحت أخبار عن زيادة جديدة في أسعار السجائر أو التبغ. فالتدخين في مصر لم يعد مجرد عادة، بل أصبح جزءًا من المزاج العام وسلعة تمس وجدان الناس قبل جيوبهم، حتى إن الاقتراب منها يتم بحذر شديد لما تحمله من حساسية اجتماعية ونفسية لدى فئات واسعة من المجتمع.

ورغم الوعي المتزايد بمخاطر التدخين الصحية، فإن الملايين في مصر ما زالوا أسرى لهذه العادة. فبين من يراها وسيلة للهروب من ضغوط الحياة، ومن يتعامل معها كطقس يومي لا يمكن الاستغناء عنه، تتسع دائرة الإدمان بصمت. ويستمر الكثيرون في النظر إلى السيجارة أو الشيشة باعتبارها الدواء السحري لتسكين الهموم.

ولم تعد صناعة التبغ مجرد نشاط تجاري، بل أصبحت شريانًا اقتصاديًا يغذي خزينة الدولة بإيرادات ضخمة، فهي من المصادر الثابتة للدخل القومي التي نادرًا ما تتأثر بالأزمات الداخلية أو التقلبات العالميةـ ولهذا، ورغم إدراك الدولة للمخاطر الصحية الهائلة المرتبطة بالتدخين، يصعب الاستغناء عن هذا المصدر الحيوي للإيرادات العامة.

18 مليون مدخن

لكن الثمن باهظ. فبينما تدر صناعة التبغ مليارات الجنيهات سنويًا، يفقد نحو 170 ألف مصري حياتهم كل عام بسبب أمراض ناتجة عن التدخين، إنها مفارقة مؤلمة بين اقتصاد يستفيد وجسد ينهار، وبين عادة يراها البعض وسيلة للترويح، لكنها في الحقيقة تسرق العمر بصمت وتنهش الصحة ببطء.

18 مليون مدخن

تتباين الأرقام الرسمية حول عدد المدخنين في مصر. وفقًا لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، تصل نسبة المدخنين إلى 14.2% من إجمالي السكان الذين تبلغ أعمارهم 15 سنة فأكثر، أي نحو 10.3 ملايين شخص.

وأشار التقرير الصادر في 31 أيار/مايو الماضي، بمناسبة اليوم العالمي للامتناع عن التدخين، إلى أن أعلى نسبة للمدخنين تتركز في الفئة العمرية من 35 إلى 44 عامًا، حيث تبلغ 19.2%، تليها الفئة العمرية من 45 إلى 54 عامًا بنسبة 18.5%، ثم الفئة من 25 إلى 34 عامًا بنسبة نحو 17 %.

وفي المقابل، كشف الجهاز نفسه عن أن عدد المدخنين في مصر يصل إلى نحو 18 مليون شخص، أي ما يمثل 16.8% من السكان فوق 15 عامًا، وفق نتائج مسح الدخل والإنفاق والاستهلاك لعام 2021/2022.

ووفق هذه البيانات، بلغت نسبة المدخنين بين الفئة العمرية من 15 إلى 69 سنة 22.7% من إجمالي السكان، مع التركيز الأعلى على الفئة العمرية من 30 إلى 44 سنة، كما تبين أن غالبية الذكور المدخنين يمارسون التدخين يوميًا بنسبة 81.4%، مقارنة بـ18.6% فقط من الذكور الذين يدخنون بشكل غير يومي.

أما بالنسبة لمدخني الشيشة، فيشكلون نحو 19.9% من إجمالي المدخنين، موزعين بين الفئات العمرية على النحو التالي: 17.2% للفئة من 15 إلى 29 سنة، 18.6% للفئة من 30 إلى 44 سنة، 23.4% للفئة من 45 إلى 59 سنة، و27.3% للفئة من 60 إلى 69 سنة.

وتعكس هذه الأرقام أن التدخين في مصر ظاهرة ذكورية بشكل أساسي، إذ تصل نسبة المدخنين من الذكور إلى 33.8%، مقابل 0.3% فقط بين الإناث. كما قدّر الجهاز متوسط نصيب الأسرة المصرية من الإنفاق السنوي على التدخين بنحو 2665.4 جنيه مصري.

7.5 مليار سيجارة شهريًا

يستهلك المصريون كميات هائلة من السجائر سنويًا، يتصدرون بها المنطقة العربية، إذ يقدّر الرئيس التنفيذي لشركة “الشرقية إيسترن كومباني”، أكبر منتج للتبغ في البلاد، هاني أمان، حجم الاستهلاك بما يتراوح بين 90 و95 مليار سيجارة سنويًا، أي ما يعادل نحو 7.5 مليار سيجارة شهريًا.

وأوضح أمان أن شركته وحدها تنتج نحو 7 مليارات سيجارة شهريًا، مستحوذةً على حصة تتراوح بين 70 و75% من السوق المحلية، مضيفًا أن استهلاك السجائر ينخفض بنحو 30% خلال شهر رمضان مقارنة ببقية أشهر السنة.

ولا يقتصر أثر التدخين على المدخنين فقط، إذ تكشف البيانات أن 39.6% من الأسر المصرية يوجد بها فرد مدخن على الأقل، ما يعني أن نحو 34 مليون شخص غير مدخن يعيشون يوميًا تحت وطأة التدخين السلبي داخل منازلهم.

أما من الناحية الاقتصادية، فقد بلغ متوسط إنفاق الأسرة المصرية على الدخان نحو 1724.9 جنيه سنويًا، أي ما يعادل 4.7% من إجمالي الإنفاق السنوي للأسرة، الذي يقدر بحوالي 36.700 جنيه، فيما تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن 21% من سكان مصر مدخنون، يضاف إليهم 23% يتعرضون للتدخين السلبي.

وتظهر الأرقام القاسية حجم الخطر الصحي الكامن في هذه العادة، إذ يفقد نحو 171 ألف مصري حياتهم سنويًا بسبب أمراض ترتبط مباشرة بالتدخين، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

من 2 إلى 4 مليار دولار ضرائب سنوية

يمثل مزاج المصريين، كما يُطلق عليه أحيانًا في الإشارة إلى استهلاك السجائر والتبغ، عنصرًا مؤثرًا في خارطة الدخل القومي، إذ يعد أحد المصادر المهمة لتمويل خزينة الدولة من خلال الضرائب.

وتُظهر بيانات وزارة المالية المصرية أن الحكومة تستهدف في مشروع موازنة العام المالي 2025/2026 تحقيق إيرادات ضريبية تبلغ 111.7 مليار جنيه (حوالي 2.2 مليار دولار) من السجائر والتبغ، بزيادة تقارب 16% مقارنة بالتقديرات السابقة البالغة 96.4 مليار جنيه.

وفي السياق ذاته، تشكل شركات التبغ أحد أكبر المساهمين في الحصيلة الضريبية الإجمالية للدولة، فقد بلغت الضرائب المستحقة من هذا القطاع في العام المالي 2019/2020 نحو 67.1 مليار جنيه (أي ما يعادل نحو 4 مليارات دولار وقتها).

وكشفت القوائم المالية لشركة الشرقية للدخان – إيسترن كومباني عن أن إجمالي ما وردته الشركة إلى الخزانة العامة للدولة حتى 30 حزيران/يونيو 2019 بلغ نحو 65.3 مليار جنيه كضرائب ورسوم جمركية، أي ما يعادل 218 مليون جنيه يوميًا خلال أيام السنة الواحدة.

وقد ارتفعت قيمة الضرائب المحصلة من شركات السجائر تدريجيًا من 19.2 مليار جنيه في عام 2013/2014، إلى 54.5 مليار جنيه في 2017، ثم 60.1 مليار جنيه في 2018، وصولًا إلى 67.1 مليار جنيه في 2019، وصولا إلى 111 مليار جنيه بنهاية العام الحالي، وفق بيانات وزارة المالية (الدولار يساوي 47.3 جنيهًا).

رحلة تمتد لأكثر من 4 قرون

وتجدر الإشارة إلى أن الضرائب تشكل أكثر من 80% من إجمالي إيرادات الدولة، ومن ثم يلعب التبغ وعوائد الضرائب المحصلة منه ركنا أصيلا في منظومة الضرائب التي تمثل عصب موارد الدولة المصرية التي تنفق منها على مشروعاتها ومخططاتها التنموية.

رحلة تمتد لأكثر من أربع عقود

عرف المصريون التدخين منذ بدايات القرن السابع عشر، حين دخل نبات التبغ إلى البلاد عام 1601، وكان يُستخدم آنذاك بالمضغ قبل ظهور السجائر، وقد واجه هذا الوافد الجديد رفضًا رسميًا صارمًا من الوالي العثماني، الذي اعتبره عادة مشينة تستوجب العقاب، حتى وصل الأمر إلى حد إصدار أحكام بالإعدام على من يدخن علنًا، كما يروي المؤرخ الجبرتي.

ومع مرور الزمن، انتشر استخدام التبغ رغم الحظر، وظلت مصر تعتمد على التبغ المستورد حتى الحملة الفرنسية عام 1799، حين بدأ أهالي الفيوم (جنوب) في زراعته محليًا، وفي أربعينيات القرن التاسع عشر، انتقلت عادة لفّ التبغ داخل أوراق رقيقة من أوروبا إلى مصر، لتبدأ معها مرحلة انتشار السجائر الحديثة كما نعرفها اليوم.

أما التحول الحقيقي فبدأ بعد ثورة 1919، حين تأسست أول شركة مصرية لإنتاج السجائر تحت اسم شركة سجائر محمود فهمي، التي أطلقت منتجها الشهير “بيت الأمة 1919” بشعار دعائي لافت: “السجائر التي يحبها الرياضيون”.

ولعقود طويلة، ظل الأرمن يحتكرون صناعة السجائر في مصر عبر نحو 20 مصنعًا، قبل أن يؤسس السلطان أحمد فؤاد عام 1920 الشركة الشرقية للدخان (Eastern Company) برأس مال قدره 25 ألف جنيه، بهدف منافسة الإنتاج الأجنبي والسيطرة على السوق المحلية.

ومع نجاحها المتواصل، تمكنت الشركة من دمج الشركات الأرمنية واليونانية والأجنبية المنافسة بحلول عام 1927، لتصبح المنتج الوطني الأكبر وتحتكر صناعة السجائر في مصر حتى اليوم.

ومحصلةً لما سبق، فقد تحوّل التبغ خلال العقود الماضية من مجرد سلعة استهلاكية إلى رافد اقتصادي رئيسي يمد الدولة المصرية بمصدر ثابت من الإيرادات. فقد أصبحت ضرائب السجائر والتبغ ركيزة أساسية في الموازنة العامة يصعب الاستغناء عنها، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية الراهنة، لتغدو “السيجارة”، التي يراها البعض وسيلة للتسلية أو للهروب، عبئًا يحمل جانبًا من أعباء الموازنة العامة وأحد مفاتيح الاستقرار المالي.

وفي المقابل تستنزف تلك الصناعة المربحة الجانب الصحي والاجتماعي للمجتمع المصري، فالمعادلة الصعبة بين الحفاظ على الإيرادات وتخفيف الأضرار الصحية تظل تحديًا مستمرًا أمام صانعي القرار.

ومع كل عام تتزايد فيه العوائد الضريبية من التبغ، يرتفع في المقابل عدد الأرواح التي يحصدها التدخين، وبين اقتصاد ينتعش وصحة تتدهور، تبقى صناعة التبغ في مصر رمزًا للتناقض بين الحاجة إلى المال وضرورة حماية الإنسان، معادلة دقيقة لم تنجح أي دولة حتى الآن في تحقيق توازن عادل فيها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى