عماد عنان يكتب: هل تكون الصين بديلا للولايات المتحدة في المنطقة؟
غادر الرئيس الصيني شي جين بينغ الرياض بعد انتهاء جولته التي استمرت 3 أيام كاملة، شهدت خلالها توقيع أكثر من 35 اتفاقية تعاون في مختلف المجالات بإجمالي يتجاوز 110 مليار ريال سعودي ( 29.3 مليار دولار أمريكي)، وسط تفاعل كبير لما حملته تلك الزيارة -التي وصفها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان بأنها “مرحلة تاريخية جديدة من العلاقات مع الصين”- من دلالات ومعان.
وقد أعدت الرياض للرئيس الصيني برنامجًا أشبه بالبرنامج الذي نظمته في منتصف يوليو/تمًوز الماضي للرئيس الأمريكي جو بايدن، حيث نظمت ثلاث قمم تجمعه الأولى بالقيادة السعودية والثانية بقادة دول مجلس التعاون والثالثة بقادة عرب، في رسالة مباشرة على أن أهمية بكين لا تقل مطلقًا عن أهمية واشنطن.
وعلى العكس من ذلك، فبدلا من السلام البارد بقبضة اليد الذي استقبل به بن سلمان بايدن، جاء استقبال الرئيس الصيني أكثر حرارة وحميمية، حيث رافقت الخيول العربية سيارة الرئيس الضيف، حاملين العلمين الصيني والسعودي، في مشهد يُعيد التذكير بالاستقبال الحافل بالرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، حين زار المملكة في مايو/أيار 2017، وهو الذي كان الداعم الأكبر لولي العهد السعودي في طموحه السياسي رغم الانتقادات الدولية وقتها.
التهويل السعودي لتلك الزيارة والتعويل عليها في بناء مرحلة جديدة من التحالفات الإقليمية والدولية، والزخم العربي المصاحب لها، وإجماع القادة العرب على طاولة واحدة مع الرئيس الصيني، بعدما كان هذا المشهد محصورًا فقط على سيد البيت الأبيض، يشي بقفزة كبيرة في خارطة المنطقة وتغيرات ليست طفيفة على جدران الإقليم، وإرهاصات تغيير قبلة البلدان العربية، فهل تصبح الصين بديل الولايات المتحدة للعرب؟
ماذا يريد العرب من الصين؟
بداية لابد وأن نشير إلى أن الاحتفاء العربي بالصين ليس مجانيًا، ولا نكاية في الرئيس الأمريكي ردًا على تصريح هنا أو تجاوز هناك، إذ أن للعرب أهدافًا ورؤى من وراء إسراع خطى التقارب مع التنين الأسيوي، فالصين ككيان اقتصادي هائل يهمين على السواد الأعظم من الاقتصاد العالمي، لاشك وأنه قادر على زيادة ترسيخ الاقتصاديات العربية، لاسيما الخليجية الباحثة عن توطيد أقدامها عبر مضخات التكنولوجيا الصينية التي باتت تمثل ركنا أساسيًا في اقتصاديات المستقبل التي تبحث عنها الدول النفطية.
كما تبحث الدول الخليجية عن حاضنة استراتيجية بديلة للولايات المتحدة التي ادى انسحابها من منطقة الشرق الأوسط ابتداءً من 2008 وحتى 2022، إلى حدوث تشققات وشروخ في جدار علاقتها مع أمريكا والتي كانت تتسم بالقوة والتحالف والتناغم على طول الخط.
وقد دخلت العلاقات الأمريكية الخليجية نفق التوتر منذ إبرام الاتفاق النووي مع إيران عام 2015، تصاعد الأمر مع الانسحاب من أفغانستان، وتقليل التواجد في العراق وسوريا، وتبني سياسة “أمريكا أولا” والاهتمام بالمصالح القومية وفقط دون مراعاة توازن المصالح مع حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط، كل هذا كان له صداه على حجم ومستوى العلاقات بين الطرفين.
ويرى الخليجيون في الصين بوصفها زعيمة المعسكر الشرقي مع روسيا البديل الجاهز القادر على تعويض الغياب الأمريكي مرحليًا، وهو ما يعيه الصينيون جيدًا الذين لن يجدوا ظرفا زمنيًا كهذا لتحقيق حلم التمدد والخروج من الكماشة الأمريكية المفروضة عليهم منذ عقود عبر التحالف مع اليابان وأستراليا والفلبين، وذلك من خلال منازلة الأمريكان في مناطق نفوذهم التقليدية وعلى رأسها الشرق الأوسط ومنطقة الخليج التي كانت تتعامل معها واشنطن كولاية أمريكية خاضعة لسيطرة البيت الأبيض.
ماذا تريد الصين من العرب؟
حرصت الصين منذ سنوات على تجنب الولوج في فخ الشرق الأوسط الملتهب بالقضايا الحساسة، حفاظا منها على الحياد في مواجهة عصر الاستقطابات الذي قد يهدد حلمها في أن تصبح القوة الاقتصادية الأكبر عالميًا، فتركت السياسة للأمريكان والروس واكتفت هي بالاقتصاد، لكن يبدو أن تلك الاستراتيجية ماعادت تتناسب وتطورات العصر الذي يتطلب نفوذَا سياسيًا وعسكريًا لحماية النفوذ الاقتصادية وضمان استمراريته، ومن هنا كان لابد من إعادة النظر في السياسة الصينية الخارجية، وعليه كان التحرك نحو الشرق الأوسط بصفته مورد الطاقة الآمن مسألة أمن قومي.
وبعد أن كانت قائمة أولويات بكين محصورة على شرق أسيا والمحيط الهادئ تعاظمت بالشرق الأوسط والخليج العربي، فهم مصدر الطاقة والتجارة والاستثمارات، إذ تستورد بكين نصف احتياجاتها النفطية منها، كما أنها مفترق طرق حيوي له أهميته الجيواستراتيجية.
هناك بعد قومي أخر لا يقل أهمية عن العامل الاقتصادي وراء الاهتمام الصيني بالمنطقة العربية، وهو ما يتعلق بالورقة التايوانية والكبرياء الصيني، حيث يريد النظام الحاكم أن يثبت لشعبه أنه قادر على الوقوف في مواجهة القوى الغربية العظمى، علمًا منه بأن عزوفه عن غزو تايوان إنما يرجع للردع الأمريكي المتواجد في منطقة الشرق الأوسط، إذ من المتوقع أن تكون هناك ردود فعل قاسية حال الإقدام على خطوة كهذه، أخطرها قطع كل خطوط الإمداد النفطي من الشرق والخليج إلى الصين وهو ما يعني إصابة الاقتصاد الصيني بالشلل، وعليه جاء التحرك الصيني نحو المنطقة العربية لتأمين أي سيناريوهات مضادة تحسبًا لكافة الاحتمالات.
التفاصيل التي شهدتها القمة العربية الصينية ودعوة الرئيس الصيني قادة دول الخليج العربية إلى بيع النفط والغاز لبكين باليوان، بما يرسخ عملية الصين دوليًا ويضعف قبضة الدولار الأمريكي على التجارة العالمية، تؤكد استراتيجية الصين الجديدة في تجييش الإقليم في مواجهة المعسكر الغربي، وكانت الرياض قد هددت قبل ذلك بالتخلي عن استخدام الدولار في تجارة النفط ردًا على تشريع أمريكي محتمل يعرّض أعضاء منظمة البلدان المصدر للبترول (أوبك) لدعاوى قضائية لمكافحة الاحتكار.
التنين الحذر
وافق الجيش الأمريكي عام 2016 على نشر دراسة سرية لمؤسسة “راند” البحثية كانت قد أعدتها لصالحه تحت عنوان “التنين الحذر”، وقد كشفت تلك الدراسة عن بلوغ الشرق الأوسط أهمية محورية في اهتمامات الأمن القومي الصيني، وأن بكين بدأت بالفعل في وضع خطة محكمة لإحكام السيطرة على تلك المنطقة الحيوية.
الخطة تقول إن الشرق الأوسط منطقة ملتهبة للغاية ولا يمكن بأي حال من الأحوال الولوج إليها من بوابة الاستقطابات أو الانحياز لأي من أطراف النزاع فيها، وعليه لابد من التزام الحياد وطي الخلافات السياسية والحقوقية جانبًا والإعلاء من شأن العامل الاقتصادي بوصفه الأرضية المشتركة التي يمكنها ضم الجميع.
ومن هنا جاء التزام بكين بعدم اتخاذ أي موقف متحيز في التنافس الإقليمي المشتعل بين السعودية وإيران، كذلك التزامها الحياد إزاء القضية الفلسطينية، وتبنيها موقفا متزنًا في الغالب بين طرفي الصراع، كما قدمت مبادرتها التاريخية “الحزام والطريق” لجمع شمل دول المنطقة في مشروع واحد يؤهلها لتعزيز نفوذها وفرض الهيمنة على عشرات الدول مرة واحدة.
وهكذا نجحت بكين في كسب ولاءات الجميع، السعودية والخليج من جانب وإيران من جانب أخر، فلسطين وإسرائيل، تركيا والخليج، سوريا وتركيا، استطاعت أن تقف على مسافات متساوية من كافة القوى الإقليمية، فاحتفظت لنفسها بخصوصية تميزها عن واشنطن التي سرعان ما انخرطت في العديد من الملفات فخسرت قاعدة كبيرة لها إقليميًا وهو الدرس الذي استفادت منه الصين وطبقته جيدًا.
هل تكون بديل أمريكا؟
لاشك أن بكين تأمل أن تكون البديل للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، مستغلة حالة التراجع الأمريكية الأخيرة، بجانب التطورات الدولية التي شهدها العالم والتي أعادت تشكيل خارطة التحالفات، في ظل توتر العلاقات بين واشنطن والعواصم الخليجية والعربية، لكن هل تملك المقومات لذلك؟
من الصعب الإجابة عن هذا السؤال بشكل قاطع في ظل السيولة السياسية التي تعاني منها الساحة الدولية، غير أن الفارق كبير بين بكين وواشنطن فيما يتعلق بحضورهما الشرق أوسطي، حيث تهيمن الولايات المتحدة على ممرات التجارة البحرية والبرية، وتفرض كامل سيطرتها على الموانئ الاستراتيجية، كما أنها تؤمن خطوط التجارة ومسارات النفط، هذا بجانب عشرات القواعد العسكرية المنتشرة في دول الإقليم، في مقابل قاعدة صينية وحيدة وغياب شبه تام عن تأمين الممرات المائية التجارية، وهو ما يجعل المقاربة غاية في الصعوبة.
وليس أمام الصين إذا ما أرادت ان تنافس الولايات المتحدة على قيادة الشرق الأوسط سوى بذل المزيد من الجهود وبناء قواعد عسكرية جديدة وتعزيز حضورها العسكري والتسليحي، وهو ما لاتقبله أمريكا بطبيعة الحال، ما يعني احتمالية نشوب مواجهة مسلحة هائلة بين الطرفين في المنطقة، وهذا غير مقبول بالمرة بالنسبة للصينيين الذين يتجنبون قدر الإمكان الولوج في مستنقع المواجهات المباشرة التي ربما تجهض حلم الزعامة الاقتصادية الذي يداعبهم منذ سنوات.
وترى رئيسة دراسات السياسة الخارجية والدفاعية في معهد آميريكان إنتربرايز، دانييل بليتكا، أن الصين رغم علمها بهذا التحدي الكبير لكنها لن تبعد عن الشرق الأوسط مهما كان الأمر، فهي الأن تضع أقدامها عند تقاطع طرق التجارة الرئيسية، وتؤمن إمداداتها من الطاقة الحيوية، كما خلقت لنفسها سوقا كبيرًا لبيع الأسلحة، ورسخت من حضورها الإقليمي من خلال الانخراط في بعض الملفات كالملف النووي الإيراني، لكنها لن تذهب أبعد من ذلك، ولن تدع الأمر يصل إلى صدام مباشر مع الولايات المتحدة.
إصرار بكين على التوغل شرق أوسطيًا يأتي في إطار مساعيها لتأمين مصادر الطاقة، والاستفادة من النفوذ السياسي لحلفائها الجدد، وقد تجد في ذلك فرصة لتعاظم دورها العسكري من خلال بيع المزيد من الأسلحة ومنافسة الموردين التقليدين، وهو ما يصب في النهاية في بوتقة تصدير نفسها كقوة عظمى سياسيًا كما هو اقتصاديًا.
أما على المستوى العربي فهناك رغبة ملحة منذ سنوات في تنويع الحلفاء وعدم الارتهان لقطب واحد، وقد جاءت الحرب الروسية الأوكرانية فرصة مواتية لترجمة تلك الرغبة، خاصة بعد شعور الخليجيين تحديدًا بتخلي الحليف الأمريكي، وعليه هناك اتجاه يقرأ التقارب العربي الصيني عبر لغة المناورة التي يقوم بها العرب لتحقيق أكبر قدر من الاستفادة من الاستقطاب الواضح بين أمريكا والصين، أو كما قيل في موضع أخر، “كارت أصفر” يشهره العرب في وجه الولايات المتحدة ردًا على سياستها خلال الأونة الأخيرة.
في ضوء ما سبق يمكن القول إن ما تراه بليتكا يؤمن به العرب أيضًا، وتؤكده الدراسات الصادرة عن المراكز البحثية المتخصصة التي تؤكد أن الصين – رغم قوتها الاقتصادية الهائلة- لايمكنها بأي حال من الأحوال أن تكون بديلا للولايات المتحدة التي لديها من أوراق الضغط والأدوات ما يمكن أن تقلب به الطاولة، غير أن حرصها على عدم خسارة حلفائها يدفعها لإعادة النظر في سياساتها الخارجية تجاه المنطقة مرة أخرى، وهو ما قد تظهر إرهاصاته خلال الفترة المقبلة، فما كان قبل زيارة الرئيس الصيني للرياض لن يكون كما بعده.
- (مدير مركز الشرق الأدنى للدراسات الاستراتيجية)