مقالات

قفزًا على هجمات “حزب الله”.. هل يُسرع نتنياهو بضرب إيران؟


أحدثت الضربات الدقيقة لحزب الله والتي استهدفت العمق الإسرائيلي خلال الأيام القليلة الماضية حالة ارتباك واضحة لدى الكيان الإسرائيلي، إذ خلطت الكثير من الأوراق على موائد صنع القرار في الكابينت، بعدما تجاوزت بشكل لافت التقديرات العسكرية المتوقعة، ووضعت مجلس الحرب المصغر بقيادة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو في مأزق كبير.

الضربات من حيث العدد والكيفية ومستوى الدقة وما أحدثته من خسائر تشير بشكل أو بأخر إلى الخطوات السريعة التي يخطوها حزب الله للتعافي مما تعرض له في سبتمبر/أيلول الماضي على أيدي جيش الاحتلال، وقدرته على استعادة التوازن الجزئي ولملمة شتاته مرة أخرى،  وهو على ما يبدو لم يكن في حسابات نتنياهو وجنرالاته الذين توهموا أن الحزب بفقدان رأسه بات بلا مخالب وأن استسلامه أصبح مسألة وقت لا أكثر.

هذا التطور اللافت على الجبهة اللبنانية والذي ازداد تعقيدًا بعد الفشل في تحقيق أي اختراقات ميدانية في الداخل اللبناني رغم الحشد العسكري الكبير، والمقاومة الشرسة من قبل عناصر الحزب التي نجحت في تكبيد جيش الاحتلال خسائر فادحة، يسير بشكل عكسي مع حجم الطموحات ومستوى التفاؤل وحالة النشوة التي سبقت العملية البرية، وعليه يخشى نتنياهو من أن تقوض تلك التطورات الإنجازات التي حققها على تلك الجبهة قبل شهر حين أطاح بالعشرات من قيادات الصف الأول للحزب وضرب قواعده التسليحية والعسكرية.

وكعادة جيش الاحتلال ونتنياهو على وجه التحديد، قد يكون القفز على الفشل من خلال توسعة دائرة الصراع وفتح جبهات جديدة هو الخيار الأمثل، وهو ما فعله قبل ذلك حين حوًل الدفة للجبهة اللبنانية هربًا من الفشل في غزة، فهل يكررها اليوم بتصعيد محتمل على المستوى الإيراني للتغطية على هجمات حزب الله؟ وهل يكون توجيه ضربة لطهران هي المخرج للهروب من هذا المأزق؟

منذ اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في طهران في 31 يوليو/تمًوز الماضي، دخل الصراع الإيراني الإسرائيلي مرحلة جديدة من المواجهة، خاصة بعد خدش كبرياء طهران وانتهاك سيادتها باستهداف ضيف بهذا الحجم فوق أراضيها وعلى مرأى ومسمع من أجهزتها الأمنية والاستخباراتية.

حينها كان على الإيرانيين أن يردوا على تلك الضربة المؤلمة، حفظا لماء الوجه على الأقل،  لكن رضوخا لمقاربات وحسابات خاصة، أرجئ الرد لحين تقييمه من كافة الجوانب وعلى مختلف الأصعدة، وساعد هذا الإرجاء – التلكؤ- نتنياهو وحكومته على ترتيب المشهد وفق أبجديات مغايرة نسبيًا، فكان الحديث عن ضربة استباقية لإيران للإجهاز على ردها المتوقع أحد الملفات المطروحة في ذلك الوقت.

إلا أن الضغوط التي تعرض لها نتنياهو حالت دون الإقدام على تلك الضربة خشية رد فعل غير متوقع يُدخل المنطقة بأسرها في آتون حرب موسعة ليست إسرائيل ولا حليفها الأمريكي على استعداد لها في هذا الوقت، الأمر الذي دفع مجلس الحرب الإسرائيلي للتفكير في مسارات أخرى لتلك الضربة الاستباقية، بعيدًا عن الجغرافيا الإيرانية،  تمحورت حول العمل على تقليم أظافرها الإقليمية وتجريدها من ذراعها الطولى في المنطقة، من خلال استهداف حزب الله، راس حربة النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط.

وبالفعل بدأ الكيان المحتل في تنفيذ تلك الضربة على مراحل متعددة، حيث استهدف قيادات الصف الأول للحزب وصولا إلى رأس الهرم السلطوي، الأمين العام حسن نصر الله، ثم ضرب مرتكزاته العسكرية والتسليحية في عدة مناطق في الضاحية والجنوب وبيروت، وصولا إلى استهداف جبهته الداخلية وإثارة الرعب والضغط النفسي والمعنوي من خلال تفجيرات “البيجرات” وأجهزة الاتصال اللا سلكية.

انطلق نتنياهو في هذا التصعيد من قاعدة أن شل حركة إيران يبدأ من تفكيك حزب الله وضرب مقدراته وإخراجه عن اللعبة بشكل كامل، وهو بجانب تجريد طهران من أحد أهم أدواتها،  رسالة إنذار وترهيب للإيرانيين ونظام الملالي بشأن الضربة المتوقعة، والدفع نحو إعادة تقييم المشهد ودراسة العملية بشكل مدروس في ظل التطورات الميدانية الأخيرة.

لكن يبدو أن الرسالة لم تصل بعد – كما كان يتوقعها نتنياهو وحكومته-  إلى طهران، فجاء الرد في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وهو الرد الذي كان مغايرًا تماما لما حدث في أبريل/نيسان الماضي، سواء حيث نوعية وحجم السلاح المستخدم، أكثر من 180 صاروخا، بعضها أستخدم لأول مرة، ولا من حيث التأثير، حيث إيقاع العديد من الخسائر في تل أبيب واستهداف قاعدة عسكرية هناك، وتدمير العشرات من المباني، وإجبار مئات الالاف من سكان العاصمة ومحيطها على الاختباء في الملاجئ.

كان الرد – رغم الخسائر المحدودة نسبيًا- صادما لصناع القرار الإسرائيلي، وخارج عن التقديرات المتوقعة، وهو ما وضع نتنياهو -المنتشي بالإنجازات التي حققها على الجبهة اللبنانية-، في مأزق كبير، حيث ضرورة الرد بضربة مماثلة، لكنه في نفس الوقت مقيد بحزمة من المقاربات والضغوط الأمريكية، وعليه جاء التفكير في عملية برية في الداخل اللبناني يجز بها ما تبقى من عشب الحزب، مستغلا حالة فقدان التوازن التي بدا عليها بعد الضربات التي تلقاها مؤخرًا، في محاولة لتسول انتصار سريع وسهل وفي المتناول – هكذا كان يظن الإسرائيليون- يضرب به عصفورين بحجر واحد، إنهاء التهديد المستمر على الجبهة اللبنانية من جانب وقطع ذراع طهران الأهم من جانب أخر.

لم يحتاج نتنياهو وجنرالاته لوقت طويل لاتخاذ قرار شن عملية برية في لبنان، لاسيما بعد الانتصارات المحققة واستهداف البنية القيادية للحزب، وتدمير عدد من مرتكزاته وقواعده العسكرية والتسليحية، فالأجواء جميعها تشي بأن الوقت مناسب جدًا للقيام بتلك العملية، فالحزب بات بلا رأس ولا قيادة ولا قاعدة، مناخ مُغري للجميع ومسيل للعاب حكومة الحرب الإسرائيلية المتعطشة لأي انتصارات تداري به فشلها في ساحة الحرب الرئيسية، قطاع غزة.

لكن يبدو أن التقديرات لم تكن على المستوى الدقيق، فالحزب لم يرفع الراية البيضاء بعد، ولم يُجرد كلية من ترسانته التسليحية، حتى تفريغ منظومته القيادية لم تفقده الاتزان المتوقع، لا من حيث الوقت ولا المستوى، ليفاجئ جيش الاحتلال بأداء غير متوقع، مقاومة شرسة على الحدود ومنع أي تسلل محتمل لقوات الاحتلال، ومعارك ضارية خلفت ورائها المئات من الجنود الإسرائيليين ما بين قتيل وجريح، فضلا عن الخسائر الفادحة في القوة والعتاد.

ولم يكتف الحزب بموقع المدافع عن الحدود وفقط، بل باغت المحتل في عقر داره، مستهدفا تل أبيب وحيفا بالصواريخ والمسيرات التي اخترقت كافة أنظمة الدفاع الجوية الإسرائيلية، وأحدثت حالة من الفوضى والارتباك لم يعرفها الكيان منذ عملية الطوفان، الأمر الذي أربك كافة الحسابات وأعاد ملف تلك الحرب للنقاش مجددًا على طاولة الدراسة وإعادة التقييم.

ومع تعثر الجيش الإسرائيلي في عملية التوغل البري الحدودي في جنوب لبنان، في ظل المقاومة الشرسة هناك، من جانب، وتوسيع حزب الله هجماته الصاروخية لتصل إلى العمق الإسرائيلي للمرة الأولى منذ الحرب، من جانب أخر، بدأ نتنياهو يستشعر الخطر في تقويض الانتصارات التي حققها على مدار الشهرين الماضيين، فالتهديد لم يعد مقصورًا على مناطق الجليل في الشمال وفقط، بل وصل إلى حيفا، العاصمة الاقتصادية اللوجستية، ومنها إلى العاصمة الإدارية والسياسية، قلب إسرائيل النابض، تل أبيب، وبدلا من إعادة 350 ألف مستوطن لمناطقهم في الشمال، انضم أكثر من مليوني إسرائيلي إلى قوافل النازحين، مما يشكل عبئا وضغطا قويًا على الحكومة العبرية.

ونجحت تلك التطورات الميدانية شيئًا فشيئًا في نسف النجاحات التي حققها الجيش الإسرائيلي خلال الآونة الأخيرة، وهو ما زاد من حالة التململ التي تخيم على الشارع الإسرائيلي، والترقب والقلق الذي يساور الجبهة الداخلية بصفة عامة، لاسيما مع اعتياد استهداف تل أبيب وحيفا بالصواريخ من كافة الجبهات (لبنان واليمن وغزة والعراق) وكسر سلاح الردع الذي طالما استخدمه الكيان لتمرير مشروعه الاستيطاني التاريخي (الوطن القومي لليهود).

جدير بالذكر هنا أن وضعية حزب الله الجيوسياسية تختلف كثيرًا عنها في غزة التي تعاني فصائل المقاومة بها من حصار مطبق من كافة الجهات، وهو ما يعرفه الإسرائيليون جيدًا، إذا ما زال الحزب  يحظى بدعم مختلف الطوائف في لبنان، بجانب ما لديه من عمق استراتيجي مع الشرق الأوسط، حيث قنوات الاتصال الحدودية مع بعض البلدان – أبرزها سوريا- والتي من خلالها يمكن تزويده بالسلاح وإيصال الدعم المقدم له من طهران، الأمر الذي يجعله قادرًا على تشكيل تهديد استراتيجي لإسرائيل ولوقت طويل رغم  كل تلك الضربات التي تعرض لها.

وأمام هذا المشهد المرتبك الذي دفع خبراء ومحللون لمطالبة نتنياهو بإعادة تقييم العملية العسكرية في لبنان مرة أخرى، ودراسة التطورات والمستجدات التي فرضها حزب الله وتذهب باتجاه معادلة ردع مغايرة عن تلك التي خططت لها حكومة الحرب الإسرائيلية، بات التفكير في مخرج سريع من تلك الأزمة، ومحاولة إنقاذ ما تبقى من المكاسب والانتصارات التي حققها جيش الاحتلال على الجبهة اللبنانية والإيرانية مؤخرًا.. فهل يكون توجيه ضربة لإيران هو الخيار الأبرز للقفز على تلك المعضلة؟

منذ عملية الطوفان اعتاد نتنياهو وجنرالاته ويمينه المتطرف القفز على الفشل بفتح جبهة صراع جديدة، فبعدما عجز عن مواجهة حماس وفصائل المقاومة ذهب لفتح جبهة مع المدنيين والعزل في القطاع لتحقيق أي مكاسب مزعومة، عبر أرقام الضحايا الجنونية، ومشاهد الإجرام والقتل العنصرية، وسعى- عبر جثث الأطفال والنساء-  تمرير هذا الانتصار الوهمي.

وبعد العجز عن تحقيق أهداف الحرب الثلاثة في قطاع غزة على مدار عام كامل من المعركة، ذهب لفتح جبهة صراع أخرى على الجبهة الشمالية مع حزب الله، محاولا تسول انتصار هناك يداري به فشله العسكري الاستخباراتي في القطاع، فحقق في البداية انتصارات معنوية، يبدو أنها أغرته بشكل أو بأخر، فحاول تعميقها أكثر وأكثر وتوظيف المشهد لصالح تحقيق أكبر قدر منها، وذلك عبر عملية برية خاطفة، يجز بها ما تبقى من عشب الحزب، لكنه فوجئ برد فعل مغاير ومقاومة لم تكن في تقديراته، قلبت الطاولة وأربكت كافة الحسابات وخلطت الأوراق كاملة.

ومن هنا قد يجد الاحتلال في توجيه ضربة عاجلة لطهران ردًا على الضربة الأخيرة ملاذًا مقبولا لتلك المعضلة التي فرضها حزب الله، ضربة يستجدي بها نتنياهو انتصارًا رمزيًا يستعيد به حالة الانتشاء المتراجعة، ويرمم من خلاله ما تعرضت له الجبهة الداخلية من شروخ، هذا بخلاف ما يمكن أن يترتب على تلك الضربة  – حسب قوتها-  من ارتدادات على الجبهة اللبنانية، ربما تخدم الأجندة الإسرائيلية في نهاية الأمر.

وخلال الساعات الأخيرة عاد الحديث مجددًا عن ضرورة الرد الإسرائيلي الذي تأخر كثيرًا، وناقش صناع القرار في الكابينت مع حليفهم الأمريكي سيناريوهات تلك الضربة، وسط تحذيرات من تجاوزها خط الانضباط الذي حددته الولايات المتحدة، حيث تركز الحديث على ضرب أهداف عسكرية وربما العودة مجددًا لورقة الاغتيالات النوعية، مع تجنب قدر الإمكان استهداف المنشآت النفطية، ومن قبلها بطبيعة الحال النووية، والتي يمكن حال استهدافها إشعال المنطقة بأسرها بما ينجم عنه تداعيات كارثية حتى على الأمريكان أنفسهم، لكن يبقى السؤال: هل يلتزم نتنياهو بهذا الخط؟ ومن الذي يضمن ذلك؟ وماذا لو تجاوزه؟

ومن ثم قد تشهد الأيام وربما الساعات القليلة المقبلة تطورات متسارعة في هذا الطرح، تقفز به حكومة نتنياهو المتطرفة على المشهد في الجبهة اللبنانية، ما قد ينجم عنه أحد سيناريوهين، إما الاكتفاء بما تم والعودة – بفعل الجهود والضغوط الدبلوماسية-  لطاولة المفاوضات مجددًا لوضع حد لتلك الحرب واكتفاء كل طرف بما حقق، أو الدخول في دوامة لا تنته من حرب استنزاف طويلة الأمد

(نون بوست)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى