مجازر الطحين.. ما الذي يريد الاحتلال تحقيقه؟
عماد عنان – مدير مركز الشرق الأدنى للدراسات
حين ارتكب جيش الاحتلال المجزرة المعروفة إعلاميًا باسم “مجزرة الطحين”، الخميس 26 فبراير/شباط الماضي، حيث استهدف تجمعًا من الفلسطينيين كانوا بانتظار الحصول على المساعدات، قرب دوار النابلسي، شمال قطاع غزة ، وأسفرت عن ارتقاء 112 فلسطينيًا وإصابة نحو 800 آخرين، زعم أن التدافع هو سبب تلك الخسائر، مستعينًا برواية مضللة لتبرئة ساحته من دماء الضحايا، بعدما قوبلت الحادثة بإدانات واسعة وأججت الغضب الشعبي في الكثير من عواصم حلفاء الاحتلال.
ورغم عشرات المؤشرات والأدلة التي ساقتها تقارير إعلامية واستخباراتية حول تورط الاحتلال في تلك المجزرة، إلا أن إصرار الكيان المحتل على إلقاء المسئولية على الفلسطينيين المتدافعين، أوهم البعض أن ما حدث ربما كان خطأ غير مقصود من قبل مدافع الاحتلال التي كانت على بعد أقل من نصف كيلومتر بالقرب من دوار النابلسي شمال غزة.
لكن ما أن هدأت عاصفة الغضب جراء تلك الواقعة حتى عاود الاحتلال تكرارها أكثر من مرة، ففي خلال الأيام الأربعة الماضية فقط ارتكبت جيش المحتل أكثر من 5 مجازر ضد متلقي المساعدات ومراكز توزيعها في القطاع، راح ضحيتها 56 شهيداً وأكثر من 300 جريح.
ففي ليل 14 مارس/آذار الجاري استهدف تجمعًا في حي الزيتون جنوب شرق غزة كان بانتظار مساعدات مما أسفر عن ارتقاء 30 شخصًا، وقبل ذلك بيومين، أوقع قرابة 26 فلسطينيًا في مدينة رفح من بينهم فلسطينيين يعملان في تقديم المساعدات بقصف سيارتهما في المدينة و8 خلال استهداف مركز لتوزيع المساعدات في مخيم النصيرات وسط القطاع.
استهداف تجمعات المساعدات على مدار العشرين يومًا الماضية، رغم التحذيرات والإدانات الإقليمية والدولية، يؤكد ان ما حدث في دوار النابلسي في السادس والعشرين من فبراير/شباط الماضي لم يكن خطأ غير مقصود أو نتيجة التدافع كما زعم الاحتلال، لكنه إصرار ممنهج على ارتكاب تلك المجازر بحق متلقي المساعدات المحاصرين منذ أكثر من 5 أشهر.. فما الذي يريده المحتل من وراء جرائمه العنصرية تلك؟
مساعدات تحت الضغط
تجدر الإشارة بداية إلى أن الكيان المحتل ما وافق على إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع – رغم قلتها وعدم تلبيتها للحد الأدنى من المطلوب لسد احتياجات أكثر من مليوني فلسطيني داخل غزة- إلا نتيجة الضغوط الممارسة عليه من الجميع، وعلى رأسهم حليفه الأمريكي الذي بات يستشعر الخطر والقلق من تداعيات الغطرسة الإسرائيلية وعنصرية التعامل الوحشي مع المحاصرين الفلسطينيين.
العديد من الأصوات التي تميل لليمين المتطرف في الداخل الإسرائيلي كانت تذهب باتجاه منع دخول المساعدات بالكلية، وفرض حصار مطبق على القطاع من كافة الاتجاهات، أملا أن يقود ذلك إلى انقلاب الشارع على حماس وبقية فصائل المقاومة مما يدفعها لتقديم تنازلات بشأن مفاوضات الأسرى والاستسلام وهو الوهم الذي طالما داعب خيال متطرفي وجنرالات الكابينت.
غير أن اتساع رقعة المواجهة لتشمل لبنان واليمن والعراق، واشتعال الغضب لدى بعض العواصم المجاورة، والزخم الذي باتت عليه القضية الفلسطينية لدى الشارع الأوروبي والأمريكي، كلها أمور جعلت من التمادي في صلف العنصرية ضد المحاصرين مغامرة قد تقلب الطاولة وتضع مصالح الأمريكان على المحك، وهو ما دفع واشنطن للضغط على حكومة بنيامين نتنياهو لإدخال القليل من المساعدات، لحفظ ماء الوجه أمام المجتمع الدولي وتجنبًا لأي تصعيد من نوع آخر ربما يغير قواعد المعادلة.
ومن ثم فإن إدخال المساعدات لقطاع غزة لم يأت جراء استشعار الاحتلال الإنسانية – لا سمح الله- لكنه نتيجة الرضوخ لضغوط الحلفاء خشية المزيد من اتساع رقعة المواجهة مع التيار الداعم للمقاومة والذي كاد أن يفرض على دولة الاحتلال عزلة إقليمية ودولية لولا تدخل حلفاء تل أبيب من العرب.
تعزيز مخطط التهجير
يسعى الاحتلال منذ اليوم الأول للحرب ومن خلال الاستراتيجيات العسكرية التي يتبعها على مدار الأشهر الخمسة المنقضية إلى تعزيز مخطط التهجير ودفع سكان القطاع تحت وابل القصف والتدمير والقتل إلى النزوح نحو الجنوب كمرحلة أولى تمهيدًا لتنفيذ بقية المخطط.
وبعيدًا عن مخرجات اجتماعات حكومة الكابينت حول أهدافها من الحرب فإن الهدف الأسمى بالنسبة لهم إزالة قطاع غزة من خارطة المقاومة كونه الحلقة الأخيرة في هذا المسلسل المتراجع بعد حالة الانبطاح والخذلان التي باتت عليها بقية الحركات في الداخل الفلسطيني.
وبعدما استقر في يقين المحتل أن الإطاحة بحماس خيال من الصعب تحقيقه، على الأقل في الوقت الراهن، كان عليه البحث عن نوافذ أخرى يقلل بها من نفوذ المقاومة قدر الإمكان ويجردها من ظهيرها الشعبي في القطاع.
وأمام اللحمة الوطنية وتماسك الجبهة الداخلية التي بدا عليها القطاع، لم يجد جيش الاحتلال سوى أسلوب “التهجير القسري” كخيار وحيد لتفتيت تلك اللحمة وتفتيت جبهتها المتماسكة، مستغلا آلة البطش التي يملكها والمدعومة من أعتى جيوش العالم في مواجهة شعب أعزل لا يملك حتى قوت يومه.
وبعد أكثر من 5 أشهر كاملة من استخدام كافة أدوات الفتك وارتكاب جل الجرائم المحرمة إنسانيًا ودوليًا، لم ينجح الاحتلال في تحقيق هذا الهدف، حيث فوجئ بصمود الغزيين بطريقة لم تكن في حساباته العسكرية الخاصة، فمع كل فاجعة يتعرضون لها يزدادون إيمانا وقوة، ومع كل فقدان يقابله احتواء وتحدي، وأمام كل تنكيل تقوى عزائمهم وإصرارهم، وفي مواجهة جرافات الهدم يتشبثون أكثر ببيوتهم ولو صارت ركامًا.
وأمام هذا المشهد الأسطوري غير المتوقع، لجأ الاحتلال لـ “حرب التجويع” كسلاح أخير لكسر إرادة الغزيين، لما لهذا السلاح من قوة وتأثير من الصعب مواجهته، لكنه فوجئ برد فعل مبهر، تعاطي مع الأزمة بمرونة غير طبيعية، التكيف مع الوضع بشكل أجهض كل مخططات الاحتلال.
وبعد كل هذا الجلد على مدار أكثر من 160 يومًا لم يجد الاحتلال بد من إدخال بعض المساعدات – رغما عنه- للمحاصرين في القطاع، لكنه في الوقت ذاته يأبى أن يستقوى الغزيون بتلك المساعدات -رغم قلتها- على مواصلة صمودهم وتشبثهم بالحياة ورفضهم لمخطط التهجير.
وعليه جاء استهداف التجمعات المنتظرة لتلك المساعدات على أمل أن يدفعهم ذلك إلى حالة اليأس من البقاء في القطاع، والاضطرار أمام موجات القتل، قصفًا أو جوعًا، إلى النزوح جنوبًا، لكن صمود الغزيين كالعادة كان فرس الرهان الذي سيحسم تلك المعركة عاجلا أم آجلا.
كي الوعي الفلسطيني
رغم تدمير أكثر من ثلثي القطاع وسقوط ما يزيد عن 100 ألف فلسطيني بين شهيد ومصاب، ونزوح قرابة مليون ونصف مواطن، إلا أن ما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي لا زال عالقا في أذهان الإسرائيليين، كابوس يؤرق مضاجعهم، وشبح يطاردهم أينها رحلوا أو نزلوا.
وفي المقابل، ومع هذا التدمير الذي لم تعرفه غزة من قبل، وتلك الأرقام الكبيرة للضحايا والخسائر في الممتلكات، لا زال الغزيون ينظرون إلى طوفان الأقصى على أنها عملية القرن الحقيقية، الانتصار الذي ستتوارثه الأجيال خلال المرحلة المقبلة، الضربة التي أسقطت القناع عن أسطورة الاحتلال المزيفة وجيشها الهشً، القوة الدافعة الأكثر حضورًا وتأثيرًا التي تجعل من إزالة الكيان المحتل مسألة قابلة للتحقيق بعدما كانت ضربًا من الخيال.
وأمام هذا المشهد المتناقض، يجيش الاحتلال كل قدراته وإمكانياته لـ “كي الوعي” الفلسطيني إزاء ما حدث في هذا اليوم، محاولا بآلة البطش والتنكيل التي يمتلكها طمس حالة الانتصار التي خلفها الطوفان من العقل الجمعي الفلسطيني ومحوها من ذاكرته الشعبية، والعمل لإزالة كل معلم من معالم النصر وأي رمزية من الممكن أن يكون الطوفان قد أحدثها، وذلك من خلال المزيد من الإيلام والجراح والمعاناة.
وفي الأخير يتوهم الاحتلال أن بقتل عشرات الألاف من الفلسطينيين، معظمهم من النساء والأطفال، وتدمير البيوت ونزوح الملايين، وإذلالهم عبر حرب التجويع ومجازر المساعدات، أنه بذلك سيقضي على حضور السابع من أكتوبر/تشرين الأول في الأذهان والعقول والقلوب، بل وسيدفع سكان القطاع للانقلاب على المقاومة مما يجردها من قوتها ويفقدها نفوذها وهو الانتصار الذي يأمل نتنياهو وجنرالاته أن يحملوه للشارع الإسرائيلي لتبييض وجوههم في مواجهة الغضب الشعبي واتهامهم علانية بالفشل في إدارة الحرب والهزيمة على أيدي حماس ورفقائها.
“نون بوست”