
14 عامًا على الثورة السورية.. حتى لا تضيع تضحيات الثوار سُدى
عماد عنان
بعد 14 عامًا من الصمود والإصرار والتحدي في مواجهة واحد من أعتى النظم الاستبدادية في العالم، هاهم السوريون يتنفسون الصعداء، بعد أن توقف عداد سنين الثورة السورية في الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي، حين أطاح بنظام الأسد المُجرم، لتتحول الثورة من حالة مستمرة، لها كلفتها وثمنها الباهظ، وحلم كان صعب المنال، إلى ذكرى سنوية وحدث كتب شهادة تقاعده بعد ميلاد سوريا الجديدة الخالية -ولأول مرة من 7 عقود كاملة- من الحكم الأسدي.
يأتي إحياء ذكرى الثورة هذا العام بنكهة مختلفة، وظروف استثنائية، وواقع مغاير شكلا ومضمونا، احتفاء على الملأ وبالصوت والصورة على الهواء مباشرة، احتفالات تعم كل المدن السورية، وفي المقدمة منها قلبها النابض، العاصمة الدمشقية، شعارات تُرفع دون خوف، وحناجر تصدح بلا قلق، وأهازيج تُنشد دون رقابة، وطائرات حربية تُلقي عليهم الورود والمعايدات بدلا من براميل البارود المتفجرة.
يحتفل السوريون اليوم بالسنة الأولى لنجاح ثورتهم المباركة، التي أزهر ربيعها بعد 14 عامًا من الخريف الدامي، كان إيمانهم بقضيتهم وعدالة مطالبهم وقود هذا الحراك الذي لم يفتر رغم آلة القمع الوحشية، فأسقطوا النظام الذي توهم الجميع أنه لن يسقط، وأطاحوا بالحكم الذي ظن أنه مُخلدًا، ونسفوا في غضون أيام معدودة من معركة “ردع العدوان” عقود طويلة من مقاربات السياسة والعلوم العسكرية التي كانت تنظر لسقوط نظام الطاغية على أنه أحد المستحيلات التي لا يمكن التفكير في خرقها ولو على سبيل الدعابة والأحلام الوردية.
غير أنه ما كان لمثل تلك المعجزة أن تحدث بلا مقابل، فعلى قدر الغاية كان البذل والعطاء، وعلى مستوى الهدف كانت التضحيات والأثمان الفادحة، التي دفعها السوريون لتحرير وطنهم وإجبار رئيس النظام السابق على الهروب، ليلا كاللص، بعد 14 عامًا من الظلم والبطش والطغيان، خلف وراءها بلدا مُدمرًا في بنيته، مٌحطما في وعيه، مُشتتا في شعبه المُتأرجح بين شهيد ونازح ولاجئ ومهجر، فيما عاش من تبقى منه تحت سيف القهر والتنكيل وفي غياهب الفقر والعوز.
السلمية.. الشعار والشعيرة
حين انطلقت شرارة الاحتجاجات الأولى بمظاهرات سوق الحميدية وسط العاصمة دمشق في الخامس عشر من آذار/مارس 2011، كان الشعار الذي رفعه العشرات من المواطنين والتجار الذين تجمعوا في السوق “سلمية – سلمية”، منددين باعتداء القوى الأمنية على أحد التجار، مرددين هتافات تنادي بالحرية.
كان المتظاهرون في ذلك الوقت متأثرين بقطار الربيع العربي الذي كان توقف في بعض المحطات، حاملا معه أحلام التخلص من الأنظمة الاستبدادية، كانت الأماني آنذاك مفُعمة بروح التفاؤل في بدء مرحلة جديدة تشتم فيها الشعوب العربية نسيم الحريات وأن يخلعوا ما عليهم من عباءات الظلم والطغيان التي ارتدوها قهرًا وجبرًا لعقود طويلة.
كان التحرك في البداية يسير بخطى بطيئة نسبيًا، وفي سياق المطالب المحددة والتي لم تخرج عن السقف المُلجم، حتى بدأت استفزازات أمن النظام المخلوع الذي ما عرف إلا البطش والتنكيل لغة يخاطب بها أبناء شعبه، لتبدأ كرة نار الثورة في تشكل ملامحها، لتتدحرج من دمشق إلى درعا حيث رسوم الجرافيتي (كتابات على الجدران) التي تطالب بشار الأسد بالرحيل، ما دفع مخابرات النظام لتوقيف عددًا من الشباب من صغار السن، وفاضوا وجهاء المحافظة على إطلاق سراحهم، لتشتعل المدينة بالتظاهرات الحاشدة في الثامن عشر من الشهر، ليكون ذلك إيذانا بانطلاق الثورة السورية رسميًا.
ومن درعا بعد دمشق، انتقلت عدوى الحراك الثوري لباقي المحافظات السورية التي اكتست شوارعها وميادينها بالتظاهرات الجماهيرية التي لم يألفها السوريون لعقود طويلة، خاصة في حمص وإدلب وريف دمشق، لتنضم شعارات الحرية والكرامة إلى شقيقاتها السلمية، لينطلق قطار الثورة الذي واجه تحديات عظام وعراقيل كثيرة، وينتقل الحراك لاحقا من مساره السلمي إلى المسلح من قبل الفصائل المقاتلة التي دخلت على خط الثورة كخيار مفروض رداً على الخيار الأمني للنظام.
وفي مثل تلك الأجواء الفوضوية حيث لا قيادة للثورة ولا خطوط حمراء للنظام الباطش، تعرضت الخارطة السورية للتفسخ والانقسام، حيث سقطت أسيرة بشكل عشوائي بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) شمال شرق سوريا، وفصائل الجيش الوطني السوري، والنظام المخلوع، تزامن ذلك مع تجميد لمسار المفاوضات الذي كان يتحرك خطوة ويتراجع أخرى، خاصة بعد دخول روسيا وإيران كقوى حليفة وداعمة للأسد الذي كان على بعد خطوات من الإطاحة به.
ثورة استثنائية بكل المقاييس
كانت الثورة السورية استثنائية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فعكس عقارب الساعة الثورية في الحراك العربي، حيث الانقلاب السريع علي التجارب التحررية بفعل المؤامرات والتكتلات ومحاور الثورات المضادة، جاء المشهد السوري مغايرًا في جملته، مُزلزلا في تفاصيله، مُفعما بكل أبجديات الصمود والتحدي والقفز على المنطق.
آمن السوريون بنجاح ثورتهم بداية من اللحظة التي كسروا فيها جدار الخوف الذي بناه نظام الأسد لعقود طويلة، فمنذ ذلك الوقت كتبوا أول سطر في نهاية عهد القهر والاضطهاد، وهي النقطة المحورية التي أبقت على جذوة الثورة متقدة كل تلك السنوات وبذات الزخم الذي لم يفتر، في الوقت الذي سقطت فيه تجارب أخرى مجاورة في غضون أشهر قليلة.
وكانت الثورة على أبواب الانتصار المطلق في عام 2015 لولا استشعار حلفاء الأسد الخطر من سقوطه الذي بات مسألة وقت أمام أمواج الثوار الهادرة التي بات واضحا أنه عقدت النية إلا تراجع ولا استسلام مهما كانت التضحيات، فكان التدخل من الروس والإيرانيين وميليشياتهم في المنطقة واجبًا وضروريًا لحماية الحليف ومن خلفه المصالح المشتركة بعدما فتح لهم النظام أبواب سوريا لتنفيذ أجنداتهم التوسعية على حساب الشعب السوري.
حينها كان المنطق وكافة المعطيات تذهب باتجاه أحد خيارين لا ثالث لهما، إما الاستسلام التام من السوريين وكتابة شهادة وفاة الثورة بشكل رسمي في مواجهة تلك الجحافل العسكرية وجرائم الإبادة التي تُمارس بوحشية وإجرام غير مسبوق، أو القضاء نهائيًا على كل من يرفع صوته، في ظل البون الشاسع بين قدرات النظام المدعوم من الروس والإيرانيين وبين الثوار والمعارضة حتى المسلحة منها.
لكن وبالمخالفة مع أبجديات العلوم العسكرية ونظريات المنطق القديمة والحديثة، كان للسوريين رأي أخر، إذ اختاروا الصمود والتحدي والاستبسال، بصرف النظر عن صفرية احتمالات النصر، وأصروا على مواصلة الطريق رغم وعورته، والمضي قدما نحو تحقيق الحلم وإن بدا مستحيلا، فكان لهم في نهاية الطريق ما أرادوا.
ومع فجر الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي كان السوريون يطرقون أبواب حلمهم المُستبعد، ليحولوا المستحيل ممكنًا، والخيال واقعًا، حيث هروب رأس النظام، متخفيًا كالفأر، ليلا كاللص، لتٌشرق على سماء سوريا ولأول مرة منذ أكثر من 4 عقود نسائم الحرية والكرامة والعزة، سوريا بلا أسد، بلا شبيحة، وإن كان الثمن فادحًا، والتضحيات جليلة.
تضحيات غالية.. ثمن الثورة الفادح
رغم شعارات السلمية التي رفعها المتظاهرون المحتجون على بطش وتنكيل النظام، إلا أن أذرعه الأمنية والتي لا تفهم إلا لغة السلاح، أبت أن تفهم الرسالة، فكان الرد بالقوة الغاشمة، دون أي اعتبارات إنسانية أو مجتمعية، ليتساقط السوريون على أيدي عناصر النظام التي لم تراعي حرمات القربى والإخاء والإسلام ناهيك عن الإنسانية المنعدمة من جذور هذا الحكم الفاشي.
وعلى مدار سنوات الثورة الاثني عشر، لم تترك قوات النظام بابا للإجرام إلا وطرقته، فارتكبت عشرات المجازر في البيضا والتريمسة والحولة والغوطة الشرقية وداريا وخان شيخون وغيرها، واستخدمت كافة أنواع السلاح المحرم دوليًا، ما بين الرصاص الحي والكيماوي والصواريخ الفراغية والارتجاجية والبالستية ومن قبلها البراميل المتفجرة.
وأقام النظام عشرات المقابر الجماعية التي كان يُزج فيها بالألاف أحياء، مكبلون الأيادي، معصوبو الأعين، ثم يُرمون بالرصاص في مشاهد لم تألفها البشرية منذ الحرب العالمية الثانية، ومن كان ينجو منهم من مقصلة الاغتيال كان يُرمى به في غياهب السجون والمعتقلات، وهناك كانت تتم التصفية على نار هادئة، بين فكي المكابس الألية والتعذيب الوحشي، وليس سجن صيدانا النازي سوى عينة بسيطة من منظومة متكاملة من الفاشية المُفرطة.
وكان النتاج الطبيعي لحرب الإبادة تلك التي شنها نظام الأسد ضد الحالمين بالتغيير ورافعي شعار السلمية، أن قُتل نحو 230 ألفاً و224 مدنياً، بينهم 15ألفاً و272 قتلوا تحت التعذيب، واختفاء واعتقال 154 ألفاً و816 شخصاً، وتشريد قرابة 14 مليون سوري، بحسب ما وثقته بالاسم “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فيما تشير تقارير صحفية إلى أن العدد الفعلي للضحايا يزيد عن المذكور وهو ما توثقه حالات الاكتشاف الأخيرة لمقابر جماعية جديدة لم تٌدرج ضمن قوائم الضحايا.
ورغم هذا الرقم المُرعب من الضحايا، والمناخ الإجرامي الوحشي الذي فرضه نظام الأسد على شعبه، وخطاب الوعيد والتهديد والتنكيل الممارس، وسلاح الاعتقال والإذعان في تركيع السوريين الذي استخدمته قوات النظام المجرمة، وسياسة الأرض المحروقة التي اتبعها لوأد كافة مقومات الحياة أمام كل من يفكر في الخروج عن السرب، إلا أن ذلك لم يفت في عضد الثوار الذين أمنوا برسالتهم ووثقوا في هدفهم وضحوا لأجله بالغال والنفيس.
حتى لا تضيع تضحيات الثوار سدى
وما كان للسوريين أن يقدموا كل تلك التضحيات إلا يقينًا أن النصر قادم حتى وإن لم يبدو ذلك في الأفق القريب، لكنهم أرادوا أن تكون جثامينهم هي سلم الأمل في التحرير، وجماجمهم هي البساط الذي يحمل الحالمين في التغيير، وأن يقدموا دمائهم لتخضيب الدرب نحو استكمال المشوار الذي أبدًا ما كان ولن يكون مفروشًا بالورود.
وحتى لا تضيع تلك التضحيات سدى، وتتحول إلى أرقام اعتبارية في سجلات التاريخ المنسية، فإن أقل ما يُقدم لمن ضحوا بأرواحهم ودمائهم فداء لغايتهم النبيلة وتحريرًا لوطنهم من براثن الطغيان والاستبداد، أن يسير الجميع على ذات الدرب، وأن يتعهدوا بتحقيق ما ضحى لأجله أسلافهم من الشباب والنساء والأطفال والكبار، وطن يحتوي الجميع، ينعم فيه الصغير والكبير، أيا كانت خلفيتهم العقدية أو المذهبية أو العرقية، بالأمن والأمان، يتنسمون تحت ظلاله الوارفة نسائم الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة، وطن يكون القانون مظلته، تنتفي فيه شعارات الطائفية المسمومة، وتسقط تحت أقدامه ألوية القلوية والمناطقية والمحاصصة الفاسدة.
ومع بزوغ فجر سوريا الجديدة، حيث التحديات المتوقعة، والعراقيل المحتملة، في ظل حالة التربص التي تهيمن على المشهد، داخليًا وخارجيًا، والفخاخ التي تُحاك لتنفيذ المخططات والأجندات الخارجية، لابد من التعاطي مع مثل تلك التحديات بشيء من الحنكة والمرونة والخبرة، والتي يأتي على رأسها الضبط الأمني والحفاظ على السلم الأهلي والتصدي للنزعات الانفصالية ومخططات التقسيم، بجانب تحديات الحفاظ على وحدة التراب السوري في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية، إضافة إلى التحديات الاقتصادية والنهوض بالمستوى المعيشي للمواطنين، واتخاذ خطوات سريعة في ملف إعادة الإعمار.
ومع السنة الأولى لنجاح الثورة، والرابعة عشر لانطلاقها، على الجميع في سوريا الجديدة، سلطة وشعب ومجتمع مدني وقبلي، إذا ما أرادوا رد الجميل لأرواح ودماء الضحايا، أن يعوا خطورة المرحلة، وتحدياتها الجسام، وأن يُدركوا حجم المخططات والمؤامرات التي تحاك من أعداء الثورة وحلفاء النظام السابق وأصحاب الأجندات الإقليمية، وألا يمنحوهم فرصة العودة مرة أخرى، وأن يغلقوا أمامهم الباب بالكلية، دون الانجرار لاستنساخ ممارسات الحكم الأسدي، أيا كانت المبررات، وأن تكون هناك أرضية مشتركة للانطلاق من فوقها نحو وطن واحدة يتسع للجميع تحت مظلة القانون والدستور.