
مصر في قلب الأزمة: إدارة النفوذ والسيادة في أعقاب انسحاب إريتريا من الإيغاد
عماد عنان
في الثاني عشر من كانون الأول/ديسمبر الجاري، أعلنت إريتريا، عبر بيان صادر عن وزارة خارجيتها، انسحابها رسميًا من الهيئة الحكومية المعنية بالتنمية في شرق أفريقيا، المعروفة اختصارًا بـ”إيغاد”، مبررة هذه الخطوة بأن المنظمة اضطلعت بدور سلبي ولم تُسهم في تحقيق الاستقرار الإقليمي.
ويأتي هذا الانسحاب في سياق إقليمي بالغ التعقيد، يتسم بتصاعد التوترات السياسية والأمنية وتكرار الأزمات بين دول القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، التي تضم أوغندا وكينيا وجيبوتي والصومال وإثيوبيا والسودان وجنوب السودان، في مشهد يعكس هشاشة المنظومة الإقليمية وتآكل آليات العمل الجماعي داخلها.
ولا يمكن التعامل مع التطورات الجارية في هذه المنطقة الحيوية باعتبارها شأنًا داخليًا محضًا تحكمه حدود الجغرافيا الأفريقية الضيقة، إذ إن تداعياتها تمتد إلى ما هو أبعد من الإطار الإقليمي، في ظل تشابك العلاقات وتداخل المصالح بين دول الإقليم ومحيطها الأفريقي، فضلًا عن ارتباطها بحسابات دولية أوسع.
وتُعدّ مصر إحدى أبرز الدول المرشحة للتأثر بهذه التطورات، في ضوء شبكة المصالح الاستراتيجية المعقدة التي تربطها بعمقها الأفريقي، ولا سيما في مناطق القرن الأفريقي وحوض النيل والبحر الأحمر.
ومن هنا يتصاعد القلق المصري إزاء موجات التصعيد والتوتر بين دول “إيغاد”، التي يبدو عقدها الإقليمي في حالة تفكك متسارع عامًا بعد آخر، على نحو يضع الأمن القومي المصري في دائرة التهديد المباشر ويستدعي قراءة استراتيجية شاملة لطبيعة التحولات الجارية في هذا الإقليم المحوري.
لماذا انسحبت أسمرة؟
أرجعت إريتريا قرار انسحابها من منظمة “إيغاد” إلى ما وصفته بـ”تسييس” دور المنظمة وانحرافها عن مبادئ الحياد والتوافق التي أُنشئت على أساسها، مؤكدة أن الخطوة تستند إلى جملة من الوقائع والتجارب التي أثبتت، من وجهة نظرها، فشل الهيئة في الاضطلاع بوظيفتها الإقليمية.
وأوضحت أسمرة أنها اضطلعت بدور محوري منذ إعادة تنشيط المنظمة عام 1993، وأسهمت بالتعاون مع الدول الأعضاء في تحويلها إلى أداة لتعزيز السلام والاستقرار الإقليميين، تمهيدًا لتحقيق تكامل اقتصادي قابل للاستمرار.
غير أن إيغاد، بحسب البيان، انحرفت منذ عام 2005 عن هذه الأهداف، ولم تكتفِ بالإخفاق في تلبية تطلعات شعوب المنطقة، بل تحولت إلى أداة استهداف سياسي ضد بعض الدول الأعضاء، وفي مقدمتها إريتريا، ما دفع الأخيرة إلى تعليق عضويتها عام 2007.
وأشار البيان إلى أن المنظمة قادت عقب ذلك حملة سياسية ودبلوماسية ضد أسمرة، أسفرت عن تمرير مشاريع عقوبات دولية بزعم دعم جماعات صومالية معارضة، وهو ما تُوّج بصدور قرار مجلس الأمن رقم 1907 عام 2009.
جدير بالذكر أن إريتريا قد أعادت تنشيط عضويتها في المنظمة عقب قمة يونيو 2023، استنادًا إلى تعهدات بإصلاح آليات العمل، غير أن انسحابها الأخير يعكس، وفق قراءتها، تعثر تلك الوعود وعودة المنظمة إلى مسارها السابق.
زيادة التوترات الإقليمية.. ماذا يعني هذا الانسحاب؟
يحمل قرار انسحاب إريتريا من “إيغاد” جملة من التداعيات العميقة على المشهد الإقليمي في القرن الأفريقي وشرق القارة، في مقدمتها تصاعد منسوب التوترات السياسية والأمنية على نحو ينذر بانفجار شامل، ولا سيما في ظل حالة التفكك والاضطراب التي تشوب العلاقات الإريترية–الإثيوبية مؤخرًا، بما يفتح الباب أمام احتمالات الانزلاق إلى صدام مباشر بين الجانبين.
ويمتد خطر هذا المسار إلى بقية الدول الأعضاء، إذ يُرجَّح أن تنسحب تداعيات الخلاف تدريجيًا لتغذي دوائر الاستقطاب السياسي والعسكري داخل الإقليم، الأمر الذي يضع المنطقة بأسرها على حافة فوضى ممتدة واضطرابات متداخلة قد تدفعها إلى نفق طويل من عدم الاستقرار وانهيار آليات التعاون الإقليمي.
وفي مقابل هذا السيناريو المتشائم، يطرح بعض المراقبين مسارًا أقل تصعيدًا، وإن بدت فرص تحققه محدودة، يقوم على احتواء الأزمة والتوصل إلى تسوية تعيد إريتريا إلى المنظمة تفاديًا لمزيد من التدهور، وقد تلعب دول مثل السودان وكينيا أدوار وساطة لتقريب وجهات النظر بين أسمرة والمنظمة من جانب، وكذلك بين إريتريا وإثيوبيا من جانب أخر.
غير أن القلق الأكبر يتمثل في احتمال تفكك المنظمة عبر انسحابات متتالية، إذا ما تأثرت دول أخرى بالموقف الإريتري ورؤيته بشأن غياب الحياد والنزاهة، وهو ما من شأنه تعقيد المشهدين الدبلوماسي والأمني، ويجعل من انسحاب إريتريا محطة مفصلية في مسار التعاون الإقليمي داخل القرن الأفريقي وخارجه.
مصر في قلب الأزمة
يكرّس انسحاب إريتريا من الإيغاد انتقال مصر من موقع المراقبة الحذرة إلى الانخراط المباشر في معادلة الأزمة المتفاقمة في القرن الأفريقي، بعدما تجاوزت التطورات حدود الحياد التقليدي، وأضحى الأمن القومي المصري عرضة لتداعيات مباشرة وغير مباشرة، في ظل تفكك منظومات التعاون الإقليمي وتصاعد الصراعات على النفوذ والممرات الحيوية.
وتتزامن هذه التطورات مع منعطف خطير في العلاقات الإثيوبية–الإريترية، حيث دخل البلدان في مسار متصاعد من التوترات السياسية والعسكرية، تغذّيه اتهامات متبادلة بدعم جماعات مسلحة وزعزعة الاستقرار الحدودي، إلى جانب إصرار أديس أبابا على السعي للحصول على منفذ بحري على البحر الأحمر، وهو ما تعتبره أسمرة مساسًا بسيادتها ووحدة أراضيها.
وقد بلغ هذا التصعيد ذروته بتصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، التي حملت لهجة تهديد غير مسبوقة، محذرًا من أن أي مواجهة قد تفضي إلى “سيناريو أوكرانيا”، في رسالة عكست محاولة لفرض واقع جيوسياسي جديد بالقوة.
في المقابل، تحركت القاهرة سريعًا انطلاقًا من إدراكها لحساسية البحر الأحمر باعتباره امتدادًا استراتيجيًا لأمنها القومي ومصالحها البحرية والاقتصادية والعسكرية.
فقد أكدت، عبر تصريحات وزير الخارجية بدر عبد العاطي، أن حوكمة البحر الأحمر شأن يخص الدول المشاطئة حصريًا، مستبعدة الدول الحبيسة وفي مقدمتها إثيوبيا.
كما جاء استقبال القاهرة للرئيس الإريتري أسياس أفورقي بعد أيام من التصعيد ليعكس توجهًا مصريًا واضحًا نحو تعزيز التنسيق لضمان أمن البحر الأحمر، في سياق لا ينفصل عن تعثر ملف سد النهضة وما يفرضه من تشابكات سياسية وأمنية متزايدة مع إثيوبيا.
القاهرة والقرن الأفريقي.. مقاربات النفوذ والسيادة
لم يكن القرن الأفريقي بالنسبة لمصر مجرد امتداد جغرافي لعمقها الجنوبي، بل يمثل ضلعًا رئيسيًا في منظومة أمنها القومي المتشابكة داخل القارة الأفريقية، وفي ظل العلاقة المتوترة مع أديس أبابا وتصاعد صراع النفوذ على دوائر التأثير الإقليمي، تنظر القاهرة بقدر كبير من الحذر والريبة إلى أي تحركات تكون إثيوبيا طرفًا فيها، خاصة بعد تآكل منسوب الثقة إلى مستويات شبه معدومة إزاء النوايا الإثيوبية.
وفي ضوء التحولات الجيوسياسية المتسارعة في القرن الأفريقي، تبنّت مصر مقاربة استراتيجية تقوم على تحقيق توازن دقيق بين النفوذ—السياسي والاقتصادي—واحترام السيادة الوطنية للدول، بما يضمن حماية مصالحها الحيوية دون الانزلاق إلى سياسات تصادمية مباشرة.
وفي هذا السياق، انخرطت القاهرة في بناء شراكات استراتيجية متعددة مع دول القرن الأفريقي، ركّزت بصورة خاصة على دعم الأمن البحري في البحر الأحمر وتعزيز آليات التنسيق الإقليمي.
وعليه، لا تقتصر المقاربة المصرية على تحجيم النفوذ الإثيوبي فحسب، بل تسعى إلى تأسيس إطار إقليمي متكامل يقوم على التعاون والتنمية المشتركة، بما يعزز مكانة مصر كفاعل إقليمي مؤثر يحافظ على مصالحه القومية ويؤمّن ممرات الملاحة الدولية الحيوية.
وفي هذا السياق تبرز مبادرة “السويس والبحر الأحمر” ( تهدف إلى تعزيز التعاون بين الدول العربية والأفريقية المطلة على البحر الأحمر) كأحد المرتكزات الأساسية لهذه الاستراتيجية، إذ تجمع بين دعم التنمية المستدامة والاقتصاد الأزرق وتعزيز الاستقرار السياسي والأمني، بما يخدم الأهداف الاستراتيجية المصرية في القرن الأفريقي والبحر الأحمر على حد سواء.
الدبلوماسية الحذرة وحسابات التورط
سعت مصر خلال السنوات الأخيرة إلى تعزيز حضورها وعلاقاتها مع دول القرن الأفريقي عبر مقاربة دبلوماسية اتسمت بالحذر والبراغماتية، ارتكزت على إبراز المصالح المشتركة وتأجيل الملفات الخلافية قدر الإمكان.
وجاءت هذه التحركات في إطار إدراك مصري متزايد لأهمية الإقليم باعتباره ساحة مؤثرة في معادلة الأمن القومي، لا سيما في ظل تصاعد التنافس الإقليمي والدولي على النفوذ في البحر الأحمر وشرق أفريقيا.
وفي هذا السياق، شهدت العلاقات المصرية–الإريترية دفئًا غير مسبوق، عززته التحديات الأمنية المتفاقمة في القرن الأفريقي والحاجة إلى تنسيق مشترك لضمان أمن الملاحة في البحر الأحمر، وقد تُوِّج هذا التقارب باستقبال الرئيس عبد الفتاح السيسي لنظيره الإريتري أسياس أفورقي في 29 أكتوبر الماضي، بعد زيارة سابقة للرئيس المصري إلى أسمرة حملت دلالات استراتيجية واضحة.
وينسحب هذا التوجه كذلك على العلاقات مع جيبوتي، التي استقبلت السيسي في نيسان/ أبريل الماضي، حيث جرى الاتفاق على تنفيذ حزمة من المشروعات التنموية، شملت توسعة محطة طاقة الرياح، وإنشاء محطة للطاقة الشمسية في ميناء الحاويات، فضلًا عن توسعة ميناء دوراليه، بما يعكس رهان القاهرة على توظيف التنمية الاقتصادية كأداة لتعزيز النفوذ والاستقرار.
ويكتمل هذا المسار بإطلاق مبادرة “السويس والبحر الأحمر”، التي أعلن عنها وزير الخارجية والهجرة وشؤون المصريين بالخارج بدر عبد العاطي في 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، خلال النسخة الخامسة من منتدى أسوان للسلام والتنمية المستدامة، والتي تؤكد محورية الدور المصري في تأمين البحر الأحمر وربط أمنه بالتنمية المستدامة لدوله المشاطئة.
غير أن القاهرة تدرك في الوقت ذاته أن انخراطها في القرن الأفريقي محفوف بتعقيدات كبيرة، ما يدفعها إلى انتهاج سياسة متزنة تقوم على حسابات دقيقة وقراءة معمقة لمآلات الصراع، تفاديًا لأي خطوات متسرعة قد تؤدي إلى تصعيد غير محسوب.
وفي هذا الإطار، تستبعد مصر خيار الانخراط العسكري المباشر، رغم ما يُثار بشأن احتمالات إبرام اتفاقات دفاع مشترك مع إريتريا، إدراكًا لما قد يترتب على ذلك من أعباء عسكرية واقتصادية إضافية، فضلًا عن مخاطر تعقيد علاقتها المتوترة أصلًا مع إثيوبيا وتوسيع دائرة الصراع إقليميًا.
وبدلًا من ذلك، تميل القاهرة إلى تفعيل أدواتها الدبلوماسية والجيوسياسية، عبر تعزيز التنسيق مع الشركاء الدوليين، وتوسيع حضورها داخل المؤسسات القارية الأفريقية، إلى جانب تطوير أشكال التعاون العسكري والاستخباراتي المحدود مع بعض دول الإقليم.
ومع تشابك الضغوط الدولية وتضارب المصالح الإقليمية، يبقى التحدي الأبرز أمام القاهرة هو إدارة هذه المعادلة المعقدة دون الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع أديس أبابا، في إقليم يبدو مقبلًا على تحولات قد تعيد رسم خريطة القوة في القرن الأفريقي.



