
خطوط مصر الحمراء في السودان.. ما الذي تغير؟
عماد عنان
في زيارة رسمية خاطفة، حطّ رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان في القاهرة، الخميس 18 كانون الأول/ديسمبر الجاري، حيث كان في استقباله بمطار القاهرة الدولي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في مشهد يحمل دلالات سياسية تتجاوز الطابع البروتوكولي للزيارة.
وتأتي محطة القاهرة بعد يومين فقط من زيارة البرهان إلى الرياض ولقائه بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وقبلها زيارة الرئيس الإريتري أسياس أفورقي إلى العاصمة السعودية، وهي تحركات متزامنة رأت فيها دوائر سياسية ملامح تشكّل محور إقليمي يسعى إلى فرض التهدئة في السودان واحتواء تداعيات الأزمة، بالتوازي مع خفض منسوب التوتر في البحر الأحمر الذي بات أحد أكثر الملفات حساسية في الإقليم.
مجلس السيادة الانتقالي السوداني أوضح، في بيان رسمي، أن المباحثات بين البرهان والسيسي انصبت على سبل تطوير العلاقات الثنائية ودفع آفاق التعاون المشترك في مختلف المجالات، إلى جانب تبادل الرؤى بشأن آخر المستجدات على الساحة السودانية، في ظل تعقيدات المشهد وتشابك مساراته السياسية والعسكرية.
وتكتسب الزيارة أهمية مضاعفة بالنظر إلى توقيتها الدقيق، إذ تأتي في لحظة تشهد فيها الساحة السودانية تطورات متسارعة، أبرزها التقدم الميداني لقوات الدعم السريع، وصعود خطاب انفصالي بدأ يفرض نفسه على المشهد العام، ما أربك حسابات الفاعلين المحليين والإقليميين على حد سواء، وساهم في تسريع وتيرة التحركات الدبلوماسية الإقليمية لاحتواء الأزمة قبل انزلاقها إلى مسارات أكثر خطورة يصعب التحكم في مآلاتها.
القاهرة تضع خطوطًا حمراء
في لحظة سياسية مثقلة بالقلق ومشحونة بالرمزية، تزامنت زيارة البرهان مع بيان مصري حمل نبرة حاسمة لا تخلو من عمق ودلالات استراتيجية، إذ أعلنت الرئاسة المصرية أن هناك «خطوطًا حمراء لا يمكن السماح بتجاوزها أو التهاون بشأنها»، لأنها تمسّ الأمن القومي المصري في صميمه، ذلك الأمن الذي أكدت القاهرة أنه «مرتبط ارتباطًا مباشرًا بالأمن القومي السوداني»، في معادلة تاريخية لا تقبل المساومة.
البيان المصري الذي نشره المتحدث باسم رئاسة الجمهورية على فيسبوك، وضع وحدة السودان في صدارة هذه الخطوط الحمراء، باعتبارها حجر الأساس لاستقرار الدولة وبقاء نسيجها الوطني متماسكًا، مؤكدًا أن مصر لن تسمح «بانفصال أي جزء من أراضي السودان»، ولن تقبل «بإنشاء أي كيانات موازية أو الاعتراف بها»، في موقف يعكس قناعة راسخة بأن تفكيك السودان هو بوابة لفوضى إقليمية لا يمكن احتواؤها.
كما شددت القاهرة على أن الحفاظ على مؤسسات الدولة السودانية ليس خيارًا سياسيًا قابلًا للنقاش، بل «خط أحمر آخر» لا يمكن تجاوزه.
ولم يقتصر البيان على إعلان المبادئ، بل حمل في طياته تحذيرًا صريحًا، إذ أكدت مصر استعدادها لاتخاذ «كافة التدابير والإجراءات اللازمة التي يكفلها القانون الدولي واتفاقية الدفاع المشترك مع السودان»، لضمان عدم المساس بهذه الخطوط الحمراء أو الالتفاف عليها، في رسالة واضحة بأن صبر القاهرة ليس مفتوحًا على الاحتمالات.
وفي ختام موقفها، جدّدت مصر تأكيدها على انحيازها للبعد الإنساني، مشددة على حرصها الكامل على مواصلة العمل ضمن إطار الرباعية الدولية، من أجل التوصل إلى هدنة إنسانية تفتح الطريق أمام وقف شامل لإطلاق النار، وتؤسس لملاذات وممرات إنسانية آمنة تكفل حماية المدنيين السودانيين، وذلك بالتنسيق الكامل مع مؤسسات الدولة السودانية، بوصفها الجهة الشرعية الوحيدة المعنية بحماية الشعب ووحدة الأرض.
ورغم أن البيان تجنّب تسمية الأطراف المتورطة في الانتهاكات الدائرة على الساحة السودانية، فإن الرسالة كانت واضحة المعالم؛ إذ تبدو قوات الدعم السريع هي المعنية بهذه التحذيرات الصارمة، في ظل التوتر المتصاعد في علاقاتها مع القاهرة، منذ الاشتباكات التي وقعت بين عناصر من الدعم السريع وعناصر من القوات المصرية المتواجدة في السودان، وصولًا إلى التصريحات التصعيدية الصادرة عن محمد حمدان دقلو «حميدتي» مؤخرًا، والتي اتهم فيها مصر بالمشاركة المباشرة في الحرب إلى جانب الجيش السوداني، ما أضفى على البيان المصري بعدًا ردعيًا يتجاوز حدود اللغة الدبلوماسية التقليدية.
تصعيد في اللهجة.. ما الذي تغير؟
منذ اندلاع الحرب في السودان، انتهجت القاهرة سياسة انخراط محدود ومحسوب، قوامها الحفاظ على مسافة متوازنة من أطراف الصراع، تجنبًا للانزلاق المباشر إلى مستنقع مفتوح الكلفة.
ورغم ما واجهته هذه المقاربة من ضغوط واستفزازات وتهديدات مباشرة وغير مباشرة، التزمت مصر بهذا النهج، متحملةً في المقابل تداعيات إنسانية وأمنية متزايدة، أبرزها موجات النزوح الواسعة إلى أراضيها، وما يرافقها من أعباء اقتصادية واجتماعية، فضلًا عن تعريض خاصرتها الجنوبية لمخاطر أمنية مستمرة بفعل حالة السيولة في الجوار السوداني.
غير أن التطورات الميدانية الأخيرة أعادت صياغة حسابات القاهرة، إذ بات واضحًا أن خيار الحياد لم يعد قابلًا للاستمرار في ظل التمدد السريع لقوات الدعم السريع، وسيطرتها على الفاشر ومعظم ولايات دارفور، إلى جانب تحقيقها مكاسب نوعية في كردفان، كان أبرزها الاستيلاء على حقل هجليج النفطي، الأكبر في البلاد.
هذا التحول لا يعكس مجرد تقدم عسكري، بل يشير إلى انتقال الصراع من مرحلة الاستنزاف المتبادل إلى مرحلة إعادة تشكيل موازين القوة، بما يهدد بإحداث قطيعة حقيقية مع بنية الدولة السودانية التقليدية، ويضع مستقبل وحدة البلاد على المحك.
وتكتسب الفاشر ومن بعدها كردفان في هذا السياق أهمية جيوسياسية خاصة بالنسبة لمصر، تتجاوز بعدها العسكري المباشر، كونها تمثل عقدة استراتيجية في العمق الغربي للسودان، ونقطة تحكم في مسارات الأمن والتهريب والموارد العابرة للحدود.
ولسنوات، شكّلت المدينة آخر رمز فعلي لبقاء الدولة المركزية ممثلة في الجيش والحكومة، ومن ثم فإن سقوطها الكامل لا يعني خسارة موقع ميداني فحسب، بل يشكل لحظة فاصلة قد تعيد رسم الخريطة السياسية للسودان بين خيار الدولة الواحدة أو سيناريو التشظي وتعدد الكيانات.
وضمن هذا الإطار، يصبح انخراط القاهرة في قلب المشهد نتيجة حتمية لا خيارًا سياسيًا، بحكم حجم التداعيات المحتملة على أمنها القومي، ومصالحها الاستراتيجية، والتوازنات الإقليمية المحيطة بها.
القاهرة تستشعر القلق
يعكس البيان الرئاسي المصري الأخير تصاعدًا ملحوظًا في منسوب القلق داخل دوائر الحكم بالقاهرة إزاء التمدد المتسارع لقوات «الدعم السريع»، وما يحمله من تداعيات تتجاوز الداخل السوداني إلى الإقليم بأسره، هذا القلق لم يعد مرتبطًا فقط بالهجمات الميدانية، بل تفاقم مع اتجاه الصراع نحو إنتاج وقائع سياسية موازية، عبر تأسيس حكومات ومؤسسات بديلة، بما ينذر بتحويل الحرب من مواجهة عسكرية مفتوحة إلى مسار عملي لتكريس الانفصال وإعادة رسم الخريطة السودانية.
ومنذ سقوط نظام عمر البشير عام 2019، ثم انزلاق السودان إلى حرب شاملة في أبريل/نيسان 2023، حكمت المقاربة المصرية أربع زوايا رئيسية، أمنية، واقتصادية-اجتماعية، وسياسية، ومائية.
أمنيًا، تمثل الحدود الممتدة لأكثر من 1200 كيلومتر، معظمها مناطق مفتوحة، مصدر تهديد مباشر لاحتمالات تسلل السلاح والعناصر المسلحة، بما يجعل الجبهة الجنوبية لمصر قابلة للاشتعال على غرار سيناء أو ليبيا.
أما على الجانب الاقتصادي الاجتماعي، فتتحمل القاهرة كلفة إنسانية ثقيلة نتيجة تدفق ملايين النازحين السودانيين، في وقت تعاني فيه بنيتها الاقتصادية من ضغوط مزمنة، وسياسيًا، فقد شكّل السودان الموحّد تاريخيًا عمقًا استراتيجيًا لا غنى عنه في التصور المصري للأمن القومي، بما يجعل أي تفكك محتمل عبئًا سياسيًا معقدًا على صانع القرار المصري.
وتتصل هذه الاعتبارات اتصالًا مباشرًا بملف الأمن المائي وسد النهضة، حيث ظلّت الخرطوم عنصر توازن مهمًا في مواجهة التعنت الإثيوبي، لكن سيناريو تفكك السودان أو تحوّله إلى سلطتين متصارعتين من شأنه إضعاف الموقف التفاوضي المصري، وفتح المجال أمام تمدد النفوذ الإثيوبي داخل السودان، لا سيما في ظل العلاقة المتنامية بين أديس أبابا وقوات الدعم السريع. عند هذه النقطة، يتحول الجنوب المصري إلى خاصرة رخوة في أخطر ملف وجودي تواجهه الدولة المصرية.
لهذا شكّلت المقاربات الأربع عامل كبح للقرار المصري، ودافعًا لتبنّي سياسة الانخراط المحدود، غير أن التقدم الميداني لقوات الدعم السريع، واقترابها من المجال الجغرافي المتصل بالأمن الحدودي المصري، جعلا هذا الجمود غير قابل للاستمرار.
فمرحلة ما بعد الفاشر لا تعني فقط تبدل موازين القوى داخل السودان، بل تمثل لحظة انتقال حرجة أعادت صياغة مستوى الضغط الاستراتيجي على القاهرة، وفرضت عليها إعادة تعريف دقيقة لحدود الحياد وحدود التدخل في آنٍ واحد، في ظل مخاطر تتعلق بإعادة رسم الجغرافيا السياسية جنوب مصر، وتوسّع الاقتصاد الحربي والتهريب، وإضعاف التحالفات التفاوضية في ملف سد النهضة.
تفاعل مع الخطوط الحمراء.. مصر تكشر عن أنيابها
أثار البيان الرئاسي المصري، بما تضمّنه من «خطوط حمراء» واضحة، موجة واسعة من التفاعل في الأوساط السياسية والعسكرية والإعلامية، حيث رأى فيه كثير من المحللين انتقالًا محسوبًا من مرحلة الدبلوماسية الهادئة إلى خطاب أكثر صرامة، يعكس إدراكًا مصريًا متقدمًا لخطورة التحولات الميدانية الجارية في السودان، وما تحمله من تهديد مباشر ومتصاعد للأمن القومي المصري، واعتبر هؤلاء أن البيان لا يعبّر فقط عن موقف سياسي، بل عن إعادة ضبط لقواعد الاشتباك الإقليمي في لحظة بالغة الحساسية.
في هذا السياق، شدد اللواء سمير فرج، الخبير العسكري والاستراتيجي، على أن السودان يمثل عمقًا استراتيجيًا لا يمكن لمصر التفريط فيه، مؤكدًا أن القاهرة لن تقبل بأي سيناريو يؤدي إلى تقسيم الدولة السودانية أو المساس بمصالح شعبها، خاصة في ظل الظروف الإنسانية والأمنية القاسية التي تمر بها البلاد.
وذهب اللواء محمد الغباشي، رئيس مركز آفاق للدراسات السياسية والاستراتيجية، في الاتجاه ذاته، معتبرًا أن السودان يشكل ركيزة سياسية واقتصادية محورية في الإقليم، كونه أولى دول المصب لنهر النيل، وأن وحدة أراضيه وأمنه جزء لا يتجزأ من منظومة الأمن القومي المصري، محذرًا من أن أي محاولات لإقامة كيانات موازية أو تفكيك الدولة تمثل تهديدًا مباشرًا يستدعي ردًا حاسمًا.
أما على المستوى السياسي والإعلامي، فقد رأى النائب مصطفى بكري أن التحذيرات المصرية تعكس موقفًا «واضحًا ومحددًا وجادًا»، مؤكدًا أن القاهرة لن تسمح بالمساس بمؤسسات الدولة السودانية، وفي مقدمتها الجيش، وأن أمن السودان امتداد طبيعي للأمن القومي المصري، وهو ما أبلغه السيسي صراحةً للبرهان.
وذهب أكاديميون وكتّاب، من بينهم حسان علي وأحمد الدريني، إلى توصيف البيان بوصفه أحد أكثر البيانات الرسمية المصرية حدةً منذ عقود، معتبرين أنه يعلن صراحة أن أي تغيير في جغرافيا السودان أو بنيته السيادية قد يفتح الباب أمام تدخل مصري مباشر، وفق اتفاقية الدفاع المشترك، في رسالة لا تخاطب طرفًا واحدًا بقدر ما توجَّه إلى شبكة معقدة من الفاعلين والوكلاء الإقليميين والدوليين.
طرفًا لا وسيطًا
عطفًا على ما سبق لم يكن بيان «الخطوط الحمراء» مجرد تصعيد لغوي أو رسالة ردع عابرة، بل إعلانًا عمليًا عن نهاية مرحلة الحياد المصري تجاه الأزمة السودانية، فالقاهرة، التي حاولت طويلًا إدارة المشهد من موقع الوسيط الحذر والمنخرط جزئيًا، باتت اليوم ترى أن تطورات الميدان تجاوزت حدود الاحتمال، وأن الصراع لم يعد شأنًا سودانيًا داخليًا يمكن ضبطه دبلوماسيًا من الخارج، بل تهديدًا مباشرًا ومتداخلًا مع أمنها القومي وحدودها ومصالحها الاستراتيجية.
من هنا، لم تعد مصر طرفًا محايدًا بالمعنى التقليدي، بل لاعبًا معنيًا بإعادة رسم قواعد الاشتباك ومنع فرض وقائع جديدة تمس وحدة السودان وتوازن الإقليم.
ومع ذلك، وبحكم خبرتها التاريخية وإدراكها العميق لكلفة الصراعات المفتوحة، لا تزال القاهرة تفضّل المسار الدبلوماسي بوصفه الخيار الأول، سواء عبر آليات الرباعية الدولية أو من خلال تنسيق إقليمي واسع، سعيًا لوقف إطلاق النار والحفاظ على الدولة السودانية ومؤسساتها ومنع انزلاق البلاد نحو سيناريو التفكك الشامل، فالدبلوماسية، من المنظور المصري، ليست ترفًا سياسيًا بقدر ما هي خط الدفاع الأول عن استقرار الإقليم وأمنه.
غير أن هذا التفضيل لم يعد مفتوح السقف، ولا منفصلًا عن منطق الردع، فالخيارات الأخرى باتت حاضرة في الحسابات المصرية كوسائل ضغط أخيرة، لا كأهداف بحد ذاتها، في حال اقترب الخطر أكثر من حدود الأمن القومي.
ومن هنا يفرض السؤال نفسه بقوة: هل نحن أمام انتقال مصري فعلي إلى مرحلة انخراط محسوب، تُسند فيه الدبلوماسية بالقوة وتُرسَم فيه خطوط الفعل بوضوح؟ أم أن هذه اللهجة الصارمة ستظل محصورة في إطار التحذير السياسي دون ترجمة عملية على الأرض؟ سؤال مفتوح، ستتكفل تطورات الميدان وحدها بالإجابة عنه.



