الاحتجاجات الشعبية ضد الدور الفرنسي في غرب أفريقيا: الدوافع وحدود التأثير
بقلم: صلاح خليل (*)
بعد قرابة عقد من العمليات العسكرية في غرب أفريقيا، أعلنت كل من فرنسا والاتحاد الأوروبي عن انسحاب قواتهما من مالي، وقد كان هذا القرار بمثابة إعلان واضح عن فشل الخيار العسكري في معالجة جذور الأزمة، وقد أدى ذلك إلى قناعات شعبية ولا سيما بين قطاعات كبيرة من الشباب الذين تولد لديهم شعور عميق بالإحباط، نتيجة المظالم التي تورطت فيها القوى الأجنبية، والغموض وغياب الشفافية، وعدم الخضوع للمساءلة القانونية فيما يخص الانتهاكات سواء الإنسانية أو الاقتصادية، وقد لفتت هذه الموجة من الغضب انتباه القوات الأجنبية، واندفعت العديد من الأصوات للتحذير مما قد تفضي إليه في المستقبل، لا سيما في ظل عدوى الاحتجاجات التي يمكن أن تنتقل من دولة إلى أخرى في دول الساحل.
دوافع الاحتجاجات والغضب الشعبي
أثارت المحاولات الانقلابية العسكرية في غرب أفريقيا، التي حدثت في مالي بين عامي 2020-2021، وفي بوركينافاسو في يناير 2022، ومحاولات أخرى في غينيا بيساو في فبراير 2022، موجة من الغضب الشعبي في هذه الدول، وكانت بمثابة ناقوس خطر للمصالح الفرنسية الأوروبية في غرب أفريقيا، لأنها قادت إلى احتجاجات شعبية في دول غرب أفريقيا طالبت برحيل المستعمر الفرنسي من غرب أفريقيا.
ويبدو أن شعوب هذه الدول أدركت أن الوجود الفرنسي الأوروبي في هذه المنطقة ليس عسكريًا، بل اقتصادي وثقافي يستهدف السيطرة على إرادتهم السياسية، عبر نخبة أفريقية فاسدة تعكس الوجه القبيح لبعض القيادات السياسية في بلدانهم، هكذا تعبر تلك الاحتجاجات عن رغبة حقيقية من تلك الشعوب لوقف نهب فرنسا وحلفائها ثروات بلدانهم. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تجرأت فرنسا وعملت على استنزاف ثروات هذه الدول بربط الفرنك الأفريقي بالفرنسي كوسيلة تكرس التبعية الفرنسية، حيث قامت وزارة الخزانة الفرنسية بمخاطبة جميع البنوك الإفريقية لمنطقة الغرب بإيداع حوالي نصف احتياطاتها وتحويل الأرصدة من تلك الدول إلى باريس، مما جعل السياسة الاقتصادية لهذه الدول تحت سيطرة فرنسا، وأصبحت هذه الدول مستعمرة بالمعنى الاقتصادي. ومن الجدير بالذكر أن فرنسا تحتل المركز الرابع من احتياطي الذهب في العالم، مع أنها لا تمتلك منجمًا واحدًا.
وتوجه العديد من القطاعات السياسية والشعبية في دول غرب أفريقيا أصابع الاتهام لفرنسا بأن الجماعات الإرهابية المتشددة والمليشيات العسكرية المسلحة الانفصالية هي من صنع باريس بحجة تمركزها وبقاء قواتها كذريعة لمحاربة الإرهاب والتطرف. وعلى الرغم من امتلاك فرنسا إمكانيات عسكرية ضخمة لكنها ليست جادة في محاربة ظاهرة الإرهاب. وعلى مدار السنوات الماضية فشلت دول غرب أفريقيا في الحد من انتشار الجماعات المسلحة من غير الدول والحركات المتشددة، والعنف المصاحب للعمليات العسكرية الفرنسية، واستراتيجيات الاستقرار غير الحاسمة التي تستخدمها فرنسا والاتحاد الأوروبي بهدف الإبقاء على الوضع الهش حتى تستفيد من اقتصاديات تلك الدول، بالإضافة إلى ما خلفته العمليات العسكرية من هجرة أكثر من 5.8 ملايين شخص نازحين داخليًا منهم 1.6 مليون في بوركينافاسو. مثل الوجود الفرنسي الأوروبي في غرب أفريقيا، وتدني مستوى الإنفاق والخدمات العامة والأساسية كالصحة والتعليم والحماية الاجتماعية وانعدام الأمن الغذائي.
عدوى الاحتجاجات في غرب أفريقيا
خلال الشهور الأخيرة عمت الاحتجاجات بلدان غرب أفريقيا ضد الوجود الفرنسي، حيث بدأت في مالي، ثم انتقلت إلى بوركينافاسو، وتشاد، والنيجر، وإفريقيا الوسطى. وتجاوزت شعوب تلك الدول في مطالبها الحدود والانتماءات السياسية. وفي الواقع تلك الموجة من الاحتجاجات كانت ولا تزال بمثابة حركة دؤوبة لمواطني هذه المنطقة في أفريقيا لإسماع أصواتهم في العديد من القضايا التي لم تعالجها دولهم بشكل يناسب طموحات تلك الشعوب ما بعد الاستقلال.
ففي مايو 2021، اندلعت احتجاجات عامة من المواطنين في جمهورية مالي، دعمًا للمجلس العسكري، وتطالب ليس بتقليص الوجود الفرنسي بل بمغادرة فرنسا نهائيًا بلادهم تحت شعار “لا للوجود الفرنسي في مالي”. وتزامن مع استمرار الاحتجاجات أن أحبطت الأجهزة الأمنية في مالي محاولة انقلابية في مايو 2022، نفذتها مجموعة من الضباط في الجيش المالي، واتهم المجلس العسكري الحاكم دولة غربية خططت لتك المحاولة، في إشارة واضحة لباريس. تلك المحاولة الانقلابية دفعت المجلس العسكري في مالي، لإلغاء الاتفاقيات الدفاعية الموقعة مع فرنسا وحلفائها الأوروبيين. وفي المقابل، فرضت فرنسا وحلفاؤها عقوبات على المجلس العسكري، ليس لأنهم قاموا بمحاولة انقلابية، بل لأنهم يعادون هيمنة وسيطرة فرنسا على موارد بلادهم.
كما قامت احتجاجات الشعب التشادي، في مايو 2002، للتنديد بالوجود الفرنسي في البلاد، وطالبت بانسحاب القوات الفرنسية من شرق تشاد، وإنهاء عملية نهب الثروات وتهريبها إلى فرنسا لكي يعيش الشعب الفرنسي في رفاهية في الوقت الذي يعاني فيه الشعب التشادي من الفقر. تلك المظاهرات كانت علامة فارقة للموقف الفرنسي حيال الأزمة التشادية، فقد لعبت باريس دورًا مهمًا في دعم ومساندة الجنرال محمد كاكا خلفًا لوالده الراحل إدريس ديبي. وأعلنت فرنسا أنها تؤسس لقاعدة عسكرية إضافية لها في شرق تشاد. أما في دولتي بوركينافاسو وأفريقيا الوسطى، فلم يكتفِ المحتجون ضد التدخل الفرنسي في شئون بلادهم بالمظاهرات التي تندد بالنفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا، ولكن تعمدوا في احتجاجاتهم رفع أعلام دول معادية لفرنسا مثل روسيا.
فيما أربك الانقلاب العسكري الذي وقع في يناير 2022، في بوركينافاسو، حسابات فرنسا في المنطقة، وكانت هذه المحاولة بمثابة ضربة موجعة موجهة إلى باريس من تظاهر الشعب البوركيني دعمًا للجيش، مطالبًا إياه بإنهاء وجود باريس في بلادهم بصفة خاصة، وفي غرب أفريقيا بصفة عامة. ويعتبر انقلاب بوركينافاسو هو الرابع في دول الساحل من إجمالي خمس دول يقودها عسكريون لا يتوافقون مع جزء كبير من سياساتها تجاه منطقة غرب أفريقيا: مالي، النيجر، بوركينافاسو، تشاد، موريتانيا.
التداعيات على فرنسا
رصد مؤشر الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) لغرب أفريقيا لعام 2021، زيادة كبيرة في الاحتياجات الإنسانية، وتتوقع الأمم المتحدة أن يستمر هذا الاتجاه المقلق لعام 2022، ومن المتوقع أن تتفاقم أزمة انعدام الأمن الغذائي، ومن المحتمل أن يواجه أكثر من 1.2 مليون شخص الجوع بنهاية العام الحالي. هذا ويعتبر خمس سكان مالي الأكثر عرضة للجوع، وقد تؤدي العقوبات التي فرضتها المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا وفرنسا ضد السلطة العسكرية الحاكمة في مالي، إلى تفاقم الوضع الإنساني، مما يسبب كارثة إنسانية كبيرة. ويشير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية إلى أنه في عام 2021، تم جمع 41٪ من الأموال اللازمة لتلبية الاحتياجات الأساسية للسكان غرب أفريقيا، وهو الأمر الذي أدى إلى تفاقم التوترات وحالة الاستياء القائمة ضد فرنسا وحلفائها في غرب أفريقيا، خاصة بين الشباب الذين يشكلون 75% المنطقة.
وتواجه باريس معضلة وتحديًا كبيرين في إحدى أهم مناطق نفوذها في غرب أفريقيا، حيث لم تعد الموجات المناهضة مقصورة على دول بعينها مثل مالي وأفريقيا الوسطى وبوركينافاسو والنيجر وتشاد، بل امتد ليشمل دولة مهمة في غرب أفريقيا هي السنغال. وقد أدت هذه الموجة من المظاهرات في تلك الدول إلى زيادة واضحة في تنامي المشاعر المعادية للسياسة الفرنسية في غرب أفريقيا، بسبب تزايد الاحتجاجات الشعبية ضد النفوذ الفرنسي والأوروبي معًا.
ويُعد ملف الذاكرة أحد مصادر غياب الترحيب بباريس من جانب المجتمعات الأفريقية، خاصة بعد تصاعد المطالبة بإعادة الآثار المنهوبة من قبل فرنسا إبان فترة استعمارها بلدان غرب أفريقيا. وتتعرض أيضًا لانتقادات واسعة النطاق من قبل الجيل الجديد من الأفارقة الذي يقود حراكًا في المجتمع المدني من أجل تنوير الشعوب بالجرائم التي ارتكبتها باريس في حق شعوب غرب أفريقيا. ويبدو أن شبكة المصالح والاتصالات التي حافظت عليها باريس على مدى عقود من بعد الاستقلال من قيادات أفريقية استهدفت حماية مصالحها بمنطقة غرب أفريقيا، ذهبت أدراج الرياح، وفشلت في استقطاب قيادات من الأجيال الجديدة.
ومن المتوقع أن تتنامى هذه الاحتجاجات، الأمر الذي قد يُحدث تغييرًا في هياكل السلطة في هذا البلدان، ويقوض سلطة القوى الداخلية التي تعمل لصالح باريس، أو أن تلجأ الأنظمة إلى قمع هذه الاحتجاجات مع إجراء إصلاحات باتت ضرورية من أجل وقف تدهور حالة الشرعية، خصوصًا وأن الأزمات الاقتصادية العالمية الراهنة تفاقم من الأوضاع وتؤجج من مشاعر الغضب.
- نقلا عن المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية