سعار التسليح … كيف غيرت الحرب الأوكرانية استراتيجيات الدفاع في العالم؟
عماد عنان – مدير مركز الشرق الأدنى للدراسات
مع انتهاء الحرب الروسية الأوكرانية من عامها الأول واستهلال العام الثاني خرجت العديد من مراكز الأبحاث بقراءات عدة لتقييم المعركة بعد مئات المواجهات التي شهدتها خلال الفترة الماضية وكانت أشبه ببروفة لحرب عالمية على نطاق ضيق، تتداخل فيها العديد من القوى الدولية من المعسكرين الغربي والشرقي وإن كانت في الظاهر بين روسيا وأوكرانيا فقط.
ومن المحاور المهمة التي فرضت نفسها على موائد النقاش تداعيات الحرب على منظومة التسليح في العالم لا سيما لدى الغرب الذي لم يتوان عن دعم كييف بشتى أنواع السلاح، الأمر الذي انعكس سلبًا على مخزونه التسليحي بصفة عامة بما يهدد قدرته على الصمود في حال نشوب مواجهات عسكرية مع قوى ذات ثقل عسكري كبير، وفق تحذيرات المراكز المتخصصة.
ومع انطلاق أول هجمة جوية من القوات الروسية صوب الأراضي الأوكرانية أصيب المعسكر الغربي بحالة سعار تسليحي غير مسبوقة، هرولة من كل العواصم الأوروبية لتعزيز قدراتها، إعادة نظر في ميزانيات الدفاع والأمن القومي، منح التسليح أهمية كبرى مقارنة بما كان عليه الوضع قبل بداية الحرب، تغيرات هيكلية في إمبراطورية التسليح في العالم، إنتاجًا واستهلاكًا وإنفاقًا.
وبينما تعزف أوروبا والولايات المتحدة على أوتار استمرار دعم أوكرانيا عسكريًا، خرجت العديد من الأصوات التي تحذر من الارتدادات السلبية لهذا الدعم اللوجستي والتسليحي التي يمكن أن تكون ثغرة كبيرة في جدار الأمن القومي الغربي، فما تلك الارتدادات؟ وأبرز مؤشراتها؟ وكيف أثر تسليح أوكرانيا على الدول الغربية؟
المساعدات العسكرية الغربية لأوكرانيا
منذ انطلاق الحرب في فبراير/شباط 2022 حصلت أوكرانيا على إجمالي مساعدات مالية وعسكرية من الغرب (20 دولة و4 منظمات دولية) بلغت قرابة 150.8 مليار دولار (102.2 مليار دولار مساعدات مالية و48.5 مليار دولار مساعدات عسكرية)، بما يعادل 2.7 من ميزانية الدولة البالغة عام 2022 قرابة 55.5 مليار دولار.
وتصدر الاتحاد الأوروبي قائمة أكبر مانحي المساعدات لأوكرانيا بإجمالي 43.2 مليار دولار، تليه الولايات المتحدة بـ40.4 مليار دولار (نصفها مساعدات عسكرية) ثم البنك الدولي بـ18 مليار دولار، فيما قدمت الدول المانحة الأخرى ما قدره 11.2 مليار دولار (ألمانيا 5.7 مليار دولار، بريطانيا 5.4 مليار دولار، كندا 3.4 مليار دولار، بولندا 3 مليارات دولار، جمهورية التشيك 2.1 مليار دولار، فرنسا 1.5 مليار دولار، النرويج واليابان 1.4 مليار دولار من كل واحدة منهما، السويد 1.2 مليار دولار)، أما الأمم المتحدة فقدمت مساعدات قدرها 4.3 مليار دولار وصندوق النقد الدولي 2.7 مليار دولار.
أما فيما يتعلق بالتسليح الغربي والمساعدات العسكرية المقدمة لأوكرانيا فتتصدر أمريكا المشهد بنحو 20 مليار دولار، وعلى رأس الأسلحة التي قدمتها لكييف، صواريخ جافلين المحمولة على الأكتاف، التي أحدثت الفارق في ميدان المعركة حيث أسقطت مئات الدبابات الروسية، كذلك راجمة الصواريخ هيمارس التي وفرت الحماية ضد نيران الأسلحة والألغام الروسية، وهناك مدافع هاوتزر، قصيرة المدى، تتميز بالرشاقة، بجانب عمليات استطلاع بالأقمار الصناعية لكشف مواقع وتمركزات القوات الروسية، وتقديم إحداثيات دقيقة لآليات عسكرية.
وفي المرتبة الثانية تأتي بريطانيا التي قدمت للقوات الأوكرانية العديد من الأسلحة المتطورة على رأسها مئات المدرعات من نوع ماستيف، القادرة على السير في الطرق غير الممهدة، وصواريخ ستار ستريك الدفاعية، المحمولة على الأكتاف ويصل مداها إلى 6 كيلومترات وموجهة بالليزر، إضافة إلى صواريخ هاربون المخصصة لضرب السفن، التي استهدفت قطعًا بحريةً روسيةً.
وتأتي فرنسا وألمانيا في المرتبة الثالثة من حيث تسليح الجانب الأوكراني، فقد قدمت فرنسا راجمات صواريخ وبطاريات صواريخ من طراز كروتا ومدافع سيزار وصواريخ مضادة للدبابات وللطائرات وناقلات جند مدرّعة ودبابات خفيفة الوزن من طراز AMX-10 RC، فيما قدمت ألمانيا دبابات غيبارد القادرة على المناورة وخفيفة الحركة ومدفعية هاوبتزر 2000 ضد الأفراد والآليات الخفيف وعربة المشاة المصفحة ماردر لنقل الجنود ودبابة ليوبارد 2 المستخدمة ضد تشكيلات العدو المدرعة وصواريخ ستينغر المحمولة على الأكتاف وقادرة على تدمير الأسلحة الثقيلة.
بجانب تلك الأسلحة تعهدت الدول الغربية بإرسال أسلحة أخرى خلال الفترة المقبلة منها: دبابات “تشالنجر 2” ومنظومات مدفعية متطورة كما أعلن رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، ومركبات برادلي وفق ما تعهدت واشنطن، بجانب إعلان ألمانيا عن إرسالها مركبات مشاة “ماردر”، فيما أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن بلاده ستسلم أوكرانيا “دبابات قتالية” خفيفة طراز “إم إكس-10 آر سي”.
أمريكا.. قلق من نشوب حروب طويلة الأمد
في تقرير صادر مؤخرًا عن مركز السياسات الإستراتيجية والدولية “سي إس آي إس” (CSIS) في واشنطن، (أحد أهم مراكز الأبحاث المتخصصة في الشؤون العسكرية) كشف أن الحرب في أوكرانيا تسببت في أزمة كبيرة في صناعة الأسلحة الأمريكية قد تعيق قدرة الجيش الأمريكي حال نشوب حرب طويلة الأمد مع الصين.
التقرير الذي جاء في 44 صفحة أشار إلى أن القاعدة الصناعية العسكرية الأمريكية ليست مستعدة بشكل كاف للبيئة الأمنية الدولية الموجودة الآن، موضحًا أنه في حال اندلاع حرب مع الصين “فإنه من المرجح ألا تلبي مخزونات الكثير من الأسلحة والذخائر الحاليّة التابعة للبنتاغون طلبات أفرع القوات المسلحة الأمريكية”، منوهة أن حرب أوكرانيا ليست إلا بروفة مصغرة للأزمة التي ربما تتفاقم إذا وقعت حروب أكثر شراسة وعنف خاصة في ظل المنافسة القوية بين أمريكا والصين، فضلًا عن التهديدات المستمرة من إيران وكوريا الشمالية وروسيا.
وطالب المركز وزارة الدفاع الأمريكية بضرورة التنسيق مع الكونغرس لوضع خطة عاجلة تتضمن خطوات لتحسين الصناعات الدفاعية وعمليات الاستحواذ والتجديد والمبيعات العسكرية الأجنبية، بما يتوازن مع التسهيلات العسكرية المقدمة لأوكرانيا التي وصلت قيمتها أكثر من 24 مليار دولار شملت الآلاف من أنظمة الأسلحة والذخائر.
ومن أبرز الأسلحة المهددة بالنضوب جراء الدعم المفرط لكييف، بحسب التقرير، صواريخ “جافلين” (Javelin) التي تم منح اوكرانيا منها 8500 صاروخ وهي من الصواريخ طويلة المدى المضادة للدبابات وتتميز بسهولة الاستخدام ولها فاعلية كبيرة، وهناك نظام صواريخ المدفعية عالية الحركة “هيمارس”، حيث قدمت واشنطن منها للقوات الأوكرانية 20 نظامًا صاروخيًا، يستغرق تعويضهم سنتين ونصف، فضلًا عن صواريخ “ستينغر” (Stingers)، التي مُنحت أوكرانيا منها 1600 صاروخ، وتحتاج أمريكا 6 سنوات تقريبًا لتعويضها (350 صاروخًا ينتج سنويًا).
أوروبا.. نفاد مخزون الأسلحة الاحتياطي
في تصريح صحفي له في ديسمبر/كانون الأول 2020 قال مفوض السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، إن المخزون الاحتياطي للأسلحة الأوروبية التي يتم إرسالها إلى أوكرانيا قد نفد، مرجعًا ذلك إلى عدم تلقي المجمع الصناعي العسكري الأوروبي التمويل المناسب خلال السنوات الماضية.
ورغم ارتفاع حجم الإنفاق العسكري لدول الاتحاد الأوروبي بنسبة 6% في عام 2021 إذ بلغ 214 مليار يورو، فإن هناك أزمة حقيقية في القدرات التسليحية التي تراجعت بشكل مقلق جراء المساعدات العسكرية المقدمة لأوكرانيا على مدار العام الأول للحرب، وأضاف بوريل “ندرك أن مخزوناتنا العسكرية تستنفد بسرعة بسبب سنوات من نقص الاستثمار”، وتابع “نواجه تهديدات، تهديدات حقيقية، بالقرب منا ومن المحتمل أن تتفاقم”.
يتطابق هذا التصريح مع ما قالته وزيرة الدفاع الألمانية كريستين لامبرشيت بأن برلين وصلت إلى “الحد الأقصى” من السلاح الذي يمكن منحه لكييف، وفي تقرير مطول لوكالة “بلومبيرغ” أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قالت: “العديد من الدول الأوروبية تعاني من نقص في مخزونها من الذخيرة والأسلحة بسبب الإمدادات الكبيرة إلى أوكرانيا”.
وكانت دول الاتحاد الأوروبي قد خصصت 8 مليارات دولار لتسليح أوكرانيا خلال العام الأول، ما تسبب في تفريغ الترسانات الأوروبية من الأسلحة، فيما حذرت صحف أوروبا من سباق التسليح الأوكراني الذي سيكون له عواقب مقلقة، أما مدير الأمن والدفاع بوزارة الخارجية البلجيكية، برونو إنجليت، فعلق على تلك الأزمة بقوله: “بعد نهاية الحرب الباردة، كان حصاد السلام مدفوعًا بتقديرات غير صحيحة أدت إلى استمرار نقص التمويل الدفاعى، لكن المشكلات الحاليّة لها ثلاث جبهات: مخزونات صغيرة وقدرات غير كافية وقدرة إنتاج صناعية منخفضة للغاية”.
وأضاف الجنرال البلجيكي أن الحرب الروسية ضد أوكرانيا وما نجم عنها من أزمات ربما تضع أوروبا في موقف حرج مستقبلًا، “حيث إن الشحن السريع لأوكرانيا أدى إلى استنفاد المخزونات الوطنية، وأصبح هناك نقص فى الأسلحة الثقيلة اللازمة للدفاع عن أوكرانيا فى الوقت الذى تواجه فيه الصناعة الأوروبية صعوبات لزيادة الإنتاج بسرعة بسبب أزمة الطاقة التى تمر بها القارة العجوز والأزمة الاقتصادية”.
ورغم المأزق الحاليّ، فإن مفوض السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي يرى أنه على أعضاء الاتحاد استمرار دعم كييف في حربها مهما كانت التداعيات، لافتًا أنه لا خيار آخر أمام الدول الغربية، وفي المقابل لا بد من زيادة الإنفاق والاستثمارات العسكرية قائلًا: “نحن بحاجة إلى الاستمرار في تلبية الاحتياجات الحالية ونحتاج إلى البدء في الاستعداد للمستقبل”.
المخاوف والتداعيات.. مؤشرات عدة
التوسع المبالغ فيه في التسليح الغربي لأوكرانيا أثار الكثير من المخاوف والمواقف التي عكست قلق بعض صناع القرار في الدول الغربية من الانعكاسات السلبية جراء تلك الهرولة في تقديم المساعدات العسكرية لكييف من أجل تقليم أظافر الدب الروسي، هذا ما خلصت إليه دراسة أجرتها مؤسسة “إنترريجونال للتحليلات الإستراتيجية” (شركة استشارات عامة تأسست عام 2021 ومقرها أبو ظبي).
الدراسة تناولت 5 مؤشرات أساسية تعكس القلق الغربي من تلك الإستراتيجية، استنادًا إلى ردود الفعل ومواقف الدول والحكومات وصناع القرار، أولها التحذيرات الألمانية على لسان وزيرة الدفاع كريستين لامبرشيت من نفاد مخزون الأسلحة الألمانية، ففي اجتماع مجلس الوزراء الألماني أغسطس/آب 2022 قالت الوزيرة: “هناك مجال ضئيل لإرسال أسلحة من مخزون الجيش الألماني إلى أوكرانيا. يجب أن أعترف أننا وصلنا إلى حدود ما يمكننا تقديمه. لا بد أن يكون جيشنا قادرًا على ضمان الدفاع عن الولايات والاتحاد الألماني.. سأحرص على استمرار هذا الوضع”، وهو التصريح الذي أحدث قلقًا لدى الأوساط الأوروبية.
ثانيًا: ما نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” بشأن التباطؤ الواضح في تحديث ترسانة الأسلحة الأمريكية، الأمر الذي يثير المخاوف من تعرض الاستعداد العسكري الأمريكي للخطر بسبب النقص، في الوقت الذي حذرت فيه شركة “نورثروب جرومان” (إحدى أكبر شركات الدفاع الأمريكية)، من عدم قدرة مخزونات الأسلحة على خدمة قتال طويل الأجل.
وفي مايو/أيار الماضي بث راديو “صوت أمريكا” تقريرًا إذاعيًا حذر فيه من أن كميات الأسلحة الهائلة التي ترسلها أمريكا لأوكرانيا يقود نحو استنزاف الترسانة العسكرية للبلاد التي قد تحتاجها حال دخولها في حروب مع خصومها كإيران وكوريا الشمالية، خاصة مع تجاوز هذا الدعم المقدم لكييف ثلث المخزون الأمريكي من الأسلحة على حسب التقرير.
ثالثًا: القلق من إطالة المدة الزمنية المطلوبة لتجديد المخزون البريطاني، حيث كانت لندن إحدى أكثر الدول التي قدمت مساعدات عسكرية لأوكرانيا وهو ما انعكس على مخزونها التسليحي الذي يخشى من عدم القدرة على تجديده في الوقت الحاليّ، إذ قد يستغرق عدة سنوات بحسب بعض التقديرات في ظل القيود المفروضة على قدرات بريطانيا الصناعية الدفاعية، وقد نقلت تقارير إعلامية عن رئيس أركان الدفاع البريطاني توني راداكين قوله: “الأمر سوف يستغرق عدة سنوات؛ فليس بمقدورنا بلمسة سحرية الإنتاج السريع للأنواع المتطورة من الأسلحة”، مضيفًا “سنحتاج إلى عدة سنوات للعودة إلى المستوى اللازم من المخزونات، والحديث هنا لا يدور عن أكثر الأسلحة تطورًا”.
رابعًا: مخاوف عدم التمكن من تلبية احتياجات الحرب من خلال التوسع في التصنيع العسكري، فالأمر يحتاج إلى فترات زمنية طويلة حسبما نشرت صحيفة “فايننشيال تايمز” في يوليو/تموز الماضي، حين استشهدت برد شركة “نيكستر” الفرنسية الدفاعية على طلب حكومة باريس بتصنيع مدافع من نوع “هاوتزر قيصر” لتعويض المرسل لأوكرانيا (أرسلت فرنسا 18 مدفعًا من هذا الطراز للقوات الأوكرانية)، فقد ردت الشركة بأنها بحاجة إلى عام ونصف تقريبًا لإتمام تلك المهمة، ما يضع الترسانة التسليحية الغربية أمام تحد صعب.
خامسًا: اللجوء إلى استيراد السلاح من دول خارج أوروبا، وهو ما قد يعرض الأمن القومي للقارة العجوز للتهديدات المستقبلية، فالنقص الذي تعاني منه الدول الغربية من قدراتها التسليحية بسبب الدعم المقدم لأوكرانيا دفعها للبحث عن بدائل خارجية، كما هو الحال مع الأسلحة الإسرائيلية التي زاد الإقبال على شرائها مؤخرًا من الدول الأوروبية بشكل غير مسبوق كما ذكرت صحيفة “ذي ماركز” العبرية.
تلك المؤشرات الخمس قادت – بحسب الدراسة – إلى التحذير من 6 تداعيات سلبية محتملة إذا لم يتم تدارك الوضع اليوم قبل الغد، وهي: عدم القدرة على تلبية الاحتياجات العسكرية الوطنية للدول الغربية وزيادة وتيرة الاستياء المجتمعي في الدول الغربية وهو ما توثقه زيادة معدلات الاضطرابات والاحتجاجات الداخلية في بعض البلدان الغربية وتصاعد الضغوط السياسية على الحكومات الغربية وتوظيف قوى المعارضة لهذا الأمر لتحقيق مكاسب على حساب الأنظمة والحكومات.
هذا إلى جانب تنامي المخاوف الأوروبية من وقوع الأسلحة في قبضة العصابات، وهو ما حذرت منه صحيفة “ديلي ميل” البريطانية، حين نشرت في يوليو/تموز الماضي تقريرًا أشارت فيه إلى أن بعض العصابات المسلحة تدخل إلى أوكرانيا وتشتري السلاح المرسل من الدول الغربية لتعود به إلى أوروبا مرة أخرى لممارسة نشاطها هناك.
وفي الأخير يأتي التخوف من إطالة أمد الحرب وحدوث تغيرات في مسارها ما يبقيها لفترات طويلة، الأمر الذي ينطوي عليه مزيد من الاستنزاف للمخزون التسليحي الغربي، وهو ما يمكن أن يقود في نهاية المطاف إلى كارثة محققة، حين يجد الغرب نفسه دون سلاح في غضون سنوات معدودة إذا استمرت تلك المنهجية دون تعويضها ببدائل سريعة وإنعاش الصناعات الدفاعية بأي وسيلة.
إستراتيجيات التسليح الغربي.. تغيرات جذرية
أجبرت تلك المخاوف المتصاعدة ومؤشراتها الواضحة والتحذيرات القوية من مغبة الإفراط في المساعدات المقدمة لأوكرانيا صناع القرار في الغرب على إعادة النظر في إستراتيجيات التسليح التي يبدو أنها شهدت تغيرات جذرية في ضوء عدد من الإرهاصات عبر مسارين اثنين، الأول: زيادة ميزانيات الإنفاق العسكري بشكل لافت، الثانية: تطوير القدرات القتالية وتوسيع رقعة الجيوش، فيما لجأت بعض الدول إلى مسار ثالث وهو تنويع مصادر الأسلحة والبحث عن بدائل، كما أشير سابقًا إلى ما ذكرته صحيفة “ذي ماركز” الإسرائيلية.
كشفت مدرس العلوم السياسية المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، رغدة البهي، في دراستها التي عنونت لها بـ”الاستقلالية الدفاعية: الانعكاسات الإستراتيجية لتزايد الإنفاق العسكري لحلفاء واشنطن” أن الحرب الروسية الأوكرانية والمساعدات العسكرية الغربية المقدمة لكييف – بجانب التوترات في تايوان وشبه الجزيرة الكورية – أدت إلى زيادة كبيرة في حجم الإنفاق العسكري لحلفاء أمريكا وعلى رأسهم ألمانيا وبريطانيا واليابان وأستراليا، لافتة أن الإنفاق العسكري الأوروبي تجاوز في عام 2021 وللمرة الأولى 200 مليار يورو، في زيادة تاريخية غير مسبوقة، أما الإنفاق العسكري على مستوى العالم بصفة إجمالية فبلغ في نفس العام 2113 مليار دولار، وفقًا لتقديرات “معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام” SIPRI.
الدراسة أشارت إلى أنه من المتوقع أن تصل ميزانية الدفاع السنوية البريطانية إلى نحو 100 مليار جنيه إسترليني بحلول عام 2030 بسبب احتمالية فقدان الجيش البريطاني ما يقرب من نصف مخزونه من الأسلحة المضادة للدبابات بسبب المساعدات العسكرية لأوكرانيا (أرسلت بريطانيا لكييف نحو 7 آلاف منظومة صاروخية مضادة للدبابات من نوع “NLAW” أي ما يعادل نصف الاحتياطات البريطانية من هذا النوع وحده).
وفي ألمانيا فقد شهدت السياسات الدفاعية هناك تغيرات ملحوظة، حيث تأسس صندوق خاص لزيادة الإنفاق الدفاعي بقيمة 100 مليار دولار في مايو/آيار 2022، بهدف زيادة قدرات الجيش الألماني وتحديثه، إضافة إلى التزام حكومة برلين بزيادة هذا الإنفاق بنسبة تصل إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2024، أي نحو 70 مليار يورو سنويًا.
وعلى الجانب الفرنسي كانت باريس قد خصصت في 2018 قرابة 295 مليار دولار لزيادة ميزانيتها الدفاعية بحلول 2025، وذلك على خلفية العمليات الإرهابية التي تعرضت لها في 2015، لكن التطورات التي أحدثتها الحرب الروسية الأوكرانية دفعت الرئيس الفرنسي إلى الضغط لزيادة الميزانية العسكرية لبلاده إلى 400 مليار يورو بزيادة قدرها 40% مما كانت عليه في 2019/2020، وضخ 59 مليار يورو سنويًا حتى نهاية 2030 مقابل 42 مليار يورو في الخطة الحاليّة.
ماكرون وفي خطابه الذي ألقاه في 20 يناير/كانون الثاني 2023 بقاعدة “مون دي مارسان” الجوية، عن ملامح مشروع قانون البرمجة العسكرية للفترة (2024 : 2030) الذي سيناقشه البرلمان الفرنسي الشهر المقبل دعا الشركات الدفاعية الفرنسية للمضي قُدمًا فيما أسماه “اقتصاد الحرب” من أجل تعزيز القدرات والصناعات الدفاعية الفرنسية وزيادة معدلات الإنتاج، استجابة مع التغيرات التي أحدثتها الحرب الأوكرانية.
العديد من دول أوروبا لجأت هي الأخرى لتغيير إستراتيجاتها الدفاعية من خلال زيادة حجم ميزانيتها تماشيًا مع التطورات الراهنة، حيث زادت النمسا ميزانية وزارة الدفاع بمقدار 604.7 مليون يورو أو 22.3% مقارنة بالعام السابق لتصل إلى ما مجموعه 3.32 مليار يورو، وفي السويد يناقش البرلمان حاليًا خطة ميزانية الدفاع بزيادة الإنفاق العسكري إلى 2% من الناتج المحلى الإجمالى بحلول عام 2026، وكانت قد خصصت البلاد 7.3 مليار دولار لبند القدرات الدفاعية في ميزانية 2022، أي ما يعادل نحو 1.45% من الناتج المحلى الإجمالي، وهو أعلى مستوى منذ عام 2005، بجانب رفع عدد الجنود المحترفين وجنود الاحتياط وموظفي الخدمة المدنية وسائقي الحافلات وحاضنات الأطفال الذين تلقوا “مهمة الحرب” بنسبة 16%، وفي إسبانيا فقد وافق مجلس النواب الإسباني على ميزانية عام 2023 بزيادة الإنفاق على الدفاع بشكل كبير.
قد تكون الحرب الأوكرانية دافعًا قويًا لزيادة حجم الإنفاق العسكري أوروبيًا لكنها ليست السبب الوحيد، فبحسب شركة الاستشارات الأمريكية “ماكينزي” فإن الإنفاق الدفاعي الأوروبي كان سيرتفع لو لم تندلع الحرب وما نجم عنها من تداعيات ومخاوف، من 296 مليار يورو في عام 2021 إلى 337 مليار يورو في عام 2026، بزيادة قدرها 14%.
وتتوقع “ماكينزي” في تحليل لها زيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي بنسبة 53% خلال نفس الفترة ليصل إلى 453 مليار يورو، كأثر مباشر للحرب على التمويل العسكري، لكنها في سيناريو آخر تشير إلى احتمالية ارتفاع تلك النسبة لتصل إلى 488 مليار يورو بزيادة قدرها 65%.
ليس الغرب وحده
إعادة النظر في السياسات الدفاعية لم تكن حكرًا على الدول التي تعاني من استنزاف ترسانتها التسليحية جراء الدعم المقدم لأوكرانيا من دول المعسكر الغربي فقط، بل تجاوزت ذلك إلى بلدان ليست طرفًا في المعركة لا من قريب أو بعيد، لكن استشعار الخطر وتصاعد المخاوف من تفاقم الوضع وفق التطورات التي أحدثتها الحرب بجانب تهديدات أخرى مشابهة دفعها هي الأخرى لتغيرات جوهرية في إستراتيجية الدفاع والتسليح.
ويأتي على رأس تلك الدول اليابان التي ضاعفت ميزانيتها الدفاعية لأكثر من 100 مليار دولار أواخر أبريل/نيسان الماضي (2% من الناتج الإجمالي المحلي) أي بعد شهرين فقط من اندلاع الحرب الأوكرانية، وهي النسبة الأعلى منذ الحرب العالمية الثانية، وقد عزا محللون هذه الطفرة في الميزانية الدفاعية إلى عدة أسباب، فبجانب الحرب المندلعة في الأراضي الأوكرانية التي يتخوف من تمدد رقعتها الجغرافية، هناك ضغوط إقليمية من كوريا الشمالية وروسيا فضلًا عن مساعي مجابهة النفوذ الصيني المتصاعد خصوصًا بعد سقوط 5 صواريخ صينية بالقرب من المياه الإقليمية اليابانية في أغسطس/آب 2022.
وفي هذا السياق يتوقع الباحث في المعهد الوطني الأوكراني للدراسات الإستراتيجية، مايكولا بيليسكوف، أن تشهد منطقة آسيا الوسطى ما أسماه “هيستريا العسكرة” خاصة بعد إعلان اليابان نشر صواريخ تفوق سرعة الصوت على الجزر الحدودية، منوهًا إلى احتمالية توتر العلاقات بشكل أكبر بين طوكيو وموسكو خلال الآونة المقبلة لعدة أسباب منها: “إجراء اليابان مناورات واسعة النطاق بالاشتراك مع الولايات المتحدة ودول أخرى يثير حفيظة موسكو، اختبار أنواع جديدة من الصواريخ والأسلحة التقليدية قرب أراضي روسيا، الدور الياباني الحليف مثار لانتقادات الروس لسماحه للأمريكيين بالمزاحمة في شرق آسيا”.
ودخلت أستراليا هي الأخرى ساحة سعار التسليح وإعادة هيكلة الإستراتيجية الدفاعية التي تتبناها، حيث أعلنت زيادة عدد قواتها المسلحة بحلول عام 2040 بمقدار 18500 جندي ليصل إلى 80 ألف جندي (أي بنسبة تصل إلى 30%)، وبتكلفة تُقدر بنحو 27 مليار دولار، وهي الزيادة الأكبر في تاريخ الجيش الأسترالي، وذلك لعدة أسباب تتعلق بتعدد التهديدات الأمنية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
غير أن زيادة القدرات الدفاعية لتلك الدول التي تتشابك مع الحدود الروسية وتثير قلق موسكو بلا شك يراها البعض مخططًا أمريكيًا لممارسة الضغط على روسيا وحلفائها في المنطقة، كما ذهب الباحث في الشأن الدولي بمؤسسة “فولسك” العسكرية الروسية، ليغ أرتيوفسك، الذي يرى أن تلك الخطوات “تهدف لتطويق الصين في المقام الأول واستفزاز روسيا ومحاولة إقحام طوكيو بشكل رسمي في الصراع الحاليّ كطرف، وهو ما دفع الكرملين لسرعة التحرك لإفشال هذا المخطط الذي ظهر جليًا بالدعم السخي من الأسلحة لكييف” على حد قوله.
في المقابل.. أمريكا تحصد المكاسب
سعار التسليح الغربي تعاطيًا مع الوضع الأوكراني لم يكن على طول الخط ارتدادًا عكسيًا، فهناك جوانب أخرى تجعله نافذة كبيرة لجني المليارات من الدولارات وتحقيق أرباح طائلة وإنعاش سوق الصناعات الدفاعية لبعض الدول، كما هو الحال مع الولايات المتحدة ممثلة فيما يسمى “المجمع العسكري – الصناعي Military–industrial complex” الذي يضم الشبكة الكاملة للعقود وتدفقات الأموال والموارد بين الأفراد والشركات والمؤسسات لمقاولي الدفاع والمتعاقدين العسكريين الخاصين والبنتاغون والكونغرس والإدارة الأمريكية.
وتمتلك الولايات المتحدة 41 شركة ضمن قائمة أفضل 100 شركة منتجة للأسلحة والخدمات العسكرية لعام 2020 طبقًا لتقرير معهد ستوكهولم (SIPRI) فيما استحوذت هذه الشركات على 54% من مبيعات الأسلحة المجمعة للشركات المئة الأفضل، وتحتكر الشركات الأمريكية قائمة الخمسة الأوائل بين المئة الأفضل منذ عام 2018 وحتى اليوم.
الباحثة مها علام، في دراسة لها منشورة على موقع “المرصد المصري” تحت عنوان (أرباح الحرب: شركات الأسلحة الأمريكية والحرب الروسية الأوكرانية) أشارت إلى هيمنة صناعة السلاح وتنامي نفوذها في المشهد الأمريكي، حيث سيطرت على السياسة الخارجية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية وكانت طوق النجاة للاقتصاد الأمريكي في كثير من المواقف، إذ تعد أمريكا الدولة الأولى عالميًا في إنتاج وتصدير السلاح بصفة عامة.
في تصريح له لصحيفة “جلوبال تايمز” قال الأستاذ في معهد العلاقات الدولية بجامعة الشؤون الخارجية الصينية، لي هايدونج: “شن حروب دامية هو الدافع وراء بقاء المجمع الصناعي-العسكري الأمريكي، وهو مدفوع أيضًا بأن يؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار والفوضى في العالم” في إشارة إلى كون الحروب منافذ دعم قوية لصناعة السلاح في أمريكا ومن ثم الاقتصاد الوطني.
أما فيما يتعلق بالحرب الأوكرانية أشارت الدراسة إلى أنه رغم الضغوط الاقتصادية التي تواجهها أمريكا بسبب الحرب وغيرها التي أوصلت معدلات التضخم إلى أرقام قياسية، فإن مجمعها الصناعي العسكري وشركاتها المنضوية تحته حققت أرباح كبيرة من وراء تلك الحرب من خلال بيع الأسلحة للدول الأوروبية، حيث أعلنت شركة “لوكهيد مارتن” عزمها مضاعفة إنتاج صواريخ “جافلين” المضادة للدبابات.
وكانت وكالة “رويترز” قد نقلت عن مصادر حكومية أمريكية أن ألمانيا قررت شراء طائرات من طراز “إف-35” من صنع شركة “لوكهيد مارتن” بدلًا من طائرات “تورنادو” القديمة، وتقارير أخرى كشفت عن مسؤول حكومي بولندي أن بلاده تعتزم أنظمة “ريبر” المتطورة للطائرات المسيرة من الولايات المتحدة.
الرئيس التنفيذي لشركة “ريثيون” الدفاعية الأمريكية، جريج هايز، قال في تصريحات سابقة له إن “ارتفاع مستوى التوترات في آسيا والشرق الأوسط وأوروبا الشرقية سيؤدي إلى ازدياد المبيعات دوليًا، لكن ليس مباشرة بل في وقت لاحق من العام 2022 وما بعده”، أما الخبير في السياسة الدفاعية لدى “معهد كاتو” إريك جوميز فقال: “اختيار الجيوش الأوروبية التزود بمقاتلات إف-35 يعد نبأً سارًا لمقاولي السلاح الأمريكيين” في إشارة إلى الأرباح المتوقع تحقيقها من شركات الصناعات العسكرية الأمريكية من وراء الحرب الأوكرانية.
في ضوء ما سبق، قد يجد الغرب نفسه في سباق مع الوقت لتجنب أي تداعيات خطيرة جراء الدعم العسكري الكبير المقدم لأوكرانيا، فإطالة أمد الحرب واستمرارها على هذه الشاكلة، مع الإصرار على استمرار الدعم لكييف، وكما أنه يمثل استنزافًا للترسانة الروسية، فإنه يحمل تحديًا خطيرًا يضع الأمن القومي الغربي على المحك، لا سيما مع ما حققته الصين من تقدم كبير في مجالات تقنيات الصواريخ والأسلحة النووية والذكاء الاصطناعي التي قد تحدث انقلابًا جذريًا في ميزان القوة العسكرية على النطاق العالمي.