عماد عنان: دبلوماسية الكوارث.. حين تنتصر الإنسانية على الخلافات السياسية
لا صوت اليوم يعلو صراخ المكلومين وأنين العالقين تحت الركام، ولا مشاهد تأسر الأبصار وتسلب الأفئدة قدر آلاف البنايات التي تهاوت بين لحظة وأخرى، على ساكنيها في غفلة منهم، ولا أمل يداعب خيالات هؤلاء المؤملين أنفسهم بانتشال ذويهم من تحت الأنقاض، أنفاس محبوسة وقلوب ترتجف وألسنة لا تكف عن الدعاء بأن يرفع الله الغمة ويزيل المحنة.
لا تزال أصداء الزلزال القاسي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا، وامتدت هزاته إلى لبنان ومصر وقبرص واليونان وفلسطين فجر الإثنين 6 فبراير/شباط 2023، وبلغت قوته 7.7 درجة على مقياس ريختر، أعقبه آخر بعد عدة ساعات بقوة 7.6 درجة ، تخيم على الأجواء، تلك الكارثة التي خلفت وراءها حتى كتابة هذه السطور أكثر من 4900 شخص، وفق البيانات الرسمية، بجانب قرابة 42 ألف مصاب، وما زال الرقم قابلًا للزيادة بين الثانية والأخرى إثر انهيار أكثر من 11 ألف مبنى بشكل كامل، فلا تزال فرق الإنقاذ تعمل على مدار الساعة، على أمل انتشال المزيد من الأحياء العالقين، في الوقت الذي تشير فيه منظمة الصحة العامة أن عدد المتضررين من هذا الزلزال قد يتجاوز 23 مليون شخص في البلدين.
حجم الزلزال الهائل الذي يعد الأعنف منذ قرابة 900 عام وأرقام الضحايا غير المسبوقة دفع معظم دول العالم ومنظمات الإغاثة الدولية، لإبداء نيتها في تقديم المساعدات العاجلة، بما فيها الحكومات التي تعاني علاقتها مع أنقرة والشمال السوري من توتر وخلافات سياسية، لكنها الإنسانية المقدمة على أي وجهات نظر تحتمل التأويل، لتؤكد دبلوماسية الأزمات أنها واحدة من أنجع الدبلوماسيات في علوم السياسة والعلاقات الدولية.
مساعدات عربية
لم تتأخر ردود الفعل العربية والدولية إزاء تلك الكارثة، فقد بادرت العديد من الحكومات بإنشاء جسور جوية وتقديم مساعدات إغاثية وطبية عاجلة، حيث أصدر أمير قطر تميم بن حمد تعليماته بإطلاق جسر جوي يرافقه فريق من مجموعة البحث والإنقاذ القطرية الدولية، إضافة إلى مستشفى ميداني ومساعدات إغاثية وخيم ومستلزمات شتوية، كذلك الكويت التي أرسلت مساعدات وطواقم طبية وفق وكالتي الأنباء الرسميتين في البلدين.
الإمارات هي الأخرى انضمت إلى قافلة الدعم، بناء على توجيهات محمد بن زايد الذي أمر بإنشاء مستشفى ميداني وإرسال فريقي بحث وإنقاذ لتركيا وسوريا، وهو موقف القاهرة التي قررت إرسال مساعدات عاجلة فيما أجرى وزير خارجيتها سامح شكري اتصالًا هاتفيًا بنظيره التركي، مولود تشاووش أغلو، معربًا عن دعم مصر الكامل لأنقرة في تلك الكارثة، وفق بيان للخارجية المصرية.
وقرر الأردن إرسال مساعدت طبية عاجلة بناء على توجيهات العاهل عبد الله الثاني، فيما أصدر رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية، عبد الحميد الدبيبة، تعليماته بإرسال فريق مكون من 55 فنيًا؛ للمساعدة في أعمال البحث عن العالقين تحت الأنقاض، وأرسلت تونس طائرة عسكرية لنقل مساعدات عاجلة لكل من سوريا وتركيا، أما الجزائر فأعلنت إرسالها فريق إغاثة مكون من 89 شخصًا للمشاركة في أعمال البحث.
ولم تتخل فلسطين عن إثبات حضورها في تلك المبادرات الدولية، فقد وجَّه رئيس مجلس الوزراء محمد أشتية، بتكليف من رئيس السلطة محمود عباس أبو مازن، بإرسال فريق للمشاركة في أعمال الإنقاذ للضحايا، كما أكد الهلال الأحمر العراقي، أن “فريق إنقاذ من العراق يتوجه إلى تركيا؛ للمساعدة في عمليات إنقاذ وإغاثة ضحايا الزلزال، وسيتم إرسال 60 طنًا من المساعدات الإغاثية والغذائية والطبية إلى سوريا”.
ووجَّه العاهل البحريني الملك حمد بن عيسى آل خليفة، بتقديم مساعدات إنسانية إغاثية عاجلة، عبر المؤسسة الملكية للأعمال الإنسانية، وفق وكالة الأنباء البحرينية (بنا)، إضافة إلى إعلان وزير البيئة ناصر ياسين، أن بلاده سترسل فريق إنقاذ مؤلفًا من 72 شخصًا من الجيش والدفاع المدني والإطفاء إلى تركيا؛ للمساعدة في جهود البحث الجارية جراء الزلزال.
دعم دولي
على المستوى الدولي، وجه الرئيس الأمريكي جو بايدن وكالة التنمية الدولية في البلاد لتقييم كيف يمكن أن تساعد في تلك الكارثة، فيما قال مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، إن بلاده “قلقة للغاية” من التقارير عن الزلزال، مشيرًا في اتصال هاتفي مع عدد من المسؤولين الأتراك أن الولايات المتحدة على استعداد لتقديم جميع المساعدات اللازمة.
كما أعرب رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك عن خالص تعازيه للشعبين التركي والسوري في ضحايا الزلزال، مضيفًا في بيان رسمي له “أفكر في شعب تركيا وسوريا هذا الصباح، لا سيما المستجيبين الأوائل الذين يعملون ببسالة لإنقاذ المحاصرين بسبب الزلزال. المملكة المتحدة مستعدة لتقديم المساعدة بأي طريقة ممكنة”، أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فوصف الصور القادمة من البلدين بالـ”مروعة”، مضيفًا أن بلاده “مستعدة لتقديم المساعدة الطارئة”.
وأعرب المستشار الألماني أولاف شولتزعن تعازي بلاده لأقارب الضحايا، وأضاف “بالطبع سترسل المساعدة”، أما الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، فتعهد بتقديم المساعدة لكل من تركيا وسوريا، معربًا في رسالة وجهها لكل من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس النظام السوري بشار الأسد، عن تعازيه للشعبين في هذا المصاب.
وأعربت الهند عن استعدادها إرسال فرقة إنقاذ مكونة من 100 فرد، إضافة إلى فرق من الكلاب المدربة على التعامل مع مثل تلك الكوارث، فيما قال رئيس الوزراء الهولندي إن فريقًا هولنديًا مختصًا بالإنقاذ سينضم إلى جهود الإنقاذ، كما أكد رئيس الوزراء اليوناني أن بلاده ستوجه مواردها لمساعدة البلدين.
وفي السياق ذاته أرسل الاتحاد الأوروبي فرق إنقاذ عاجلة إلى الأراضي التركية، وفق ما أعلن المفوض الأوروبي المكلف بإدارة الأزمات يانيش لينارسيتش، فيما أكد الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، أنه على اتصال بالرئيس التركي وأنه “يحشد الدعم”، بينما أعربت الأمم المتحدة وعدد من المنظمات الدولية الأخرى تعاطفها ودعمها الكامل مع البلدين.
دبلوماسية الكوارث
للدبلوماسية وجوه كثيرة، فلم تعد ذلك النشاط التقليدي في علاقات الدول الخارجية، المعروف خطوط بداياته ومسارات النهاية، لكنها أصبحت مظلة كبيرة تضم تحتها العديد من الأدوات، من بينها تقديم العون زمن الكوارث والأزمات، ففي تلك الأثناء تكون الدول المكلومة في أمس الحاجة للدعم والمساعدات الخارجية لعبور مأزقها بسلام وفي أقصر وقت وبأقل الخسائر.
وقد تجد الكثير من الدول في تلك الأجواء فرصة سانحة لتعزيز أواصر العلاقات مع تلك البلدان من خلال المبادرات والمساعدات المقدمة، لا سيما الدول التي تعاني من توترات بين الحين والآخر، فربما تصبح تلك الأزمات والكوارث أرضية جيدة للتلاقي على مسرح بعيد نسبيًا عن المسرح السياسي المعقد.
وكثيرًا ما شهد التاريخ عشرات النماذج لهذا النوع من الدبلوماسية غير التقليدية، وإن لم تكن في إطارها المنهجي الحاليّ، لكنها كانت حاضرة بقوة، وساهمت كثيرًا في تخفيف الأجواء بين الدول وتنحية الخلافات والانطلاق منها كنقطة بداية مشتركة لعلاقات أكثر نضجًا وتناغمًا.
ومن الترجمات الحديثة لتلك الدبلوماسية ما قامت به الصين خلال جائحة كورونا (كوفيد 19) الأخيرة، فرغم أنها بؤرة انتشار هذا الوباء، فإنها الدولة الأكثر استفادة وربحية منها، حيث وطدت بكين علاقتها خلال تلك الأزمة بأكثر من 83 دولة في أوروبا وآسيا وإفريقيا من خلال ما عرف حينها باسم “دبلوماسية الكمامات”.
تركيا هي الأخرى كانت حاضرة في هذا المضمار بقوة، وذلك عبر وكالة التنمية والتعاون والتنسيق TIKA والهيئة الخيرية IHH لتقديم الدعم الطبي والمساعدات الإنسانية للمتضررين في مختلف بؤر التوتر والكوارث بشتى أنواعها، وهو ما أهلها لأن تكون أول بلد متبرع في العالم سنة 2017، عبر تخصيص 0.75% من ناتجها الوطني الإجمالي لتمويل العمليات الإنسانية عبر العالم.
ونجحت أنقرة في توظيف بنيتها الطبية القوية في خدمة أهدافها الدبلوماسية عبر مساعدة الدول المتضررة ذات الإمكانيات الصحية المتواضعة، وهو تكشف بشكل أكبر خلال جائحة كورونا، فكانت تركيا على رأس الدول التي قدمت مساعدات طبية وخدمات صحية لعشرات البلدان في شتى دول العالم.
الدبلوماسية الصحية التركية لا تتوقف عند حاجز تقديم المساعدات للبلدان في الخارج، بل استقبال الحالات المصابة فوق أراضيها وعلاجها وتقديم كل أنواع الخدمات الطبية لها، وقد تجلى ذلك بشكل واضح خلال تجنيد مستشفياتها ومنشآتها الصحية لعلاج الجرحى الليبيين ضحايا الصراع بين حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا غربًا، وسلطة الجنرال خليفة حفتر شرقًا، وذلك بعد انهيار المنظومة الصحية الليبية منذ سقوط القذافي في 2011.
وقد جنت أنقرة وبكين تحديدًا حصاد جهودهما الدبلوماسية في إدارة الأزمات والكوارث خلال السنوات الماضية عبر أشكال عدة، منها تعزيز نفوذهما وحضورهما الإقليمي والدولي، فضلًا عن تجميل الصورة التقليدية ورسم صور مشرقة جديدة عن البلدين لدى العديد من الدول المستفيدة من هذا النوع من الدبلوماسية.
وبصرف النظر عن تحفظات البعض بشأن دوافع دبلوماسية الكوارث وتحميل المساعدات المقدمة من الدول المانحة بأعباء السياسة والأدلجة والأهداف بعيدة المدى، لكنها تبقى في النهاية ضرورة ملحة وعاجلة تحتاج إليها الدول المكلومة لعبور أزمتها الراهنة، وسلوك دولي محمود مهما كانت علامات الاستفهام التي تفرض نفسها أمامه.
الإنسانية أولًا وقبل أي شيء
دومًا ما تؤصل الكوارث لمبدأ واحد هو أن الإنسانية قبل السياسة وقبل أي شيء، ففي المحن والأزمات تختفي المصالح المجردة والنزاعات العرقية والسياسية والطائفية، وتتلاشى دعوات الكراهية والبغض خلف ستائر التضامن الإنساني، ليعبر الضمير الفطري عن نقائه الأزلي قبل أن يتلوث بالانتماءات والتيارات والأيديولوجيات.
وأمام هذا النوع من الأحداث المرعبة تتناسى الحكومات والدول خلافاتها ونزاعاتها حول السلطة والحكم وصراع النفوذ، مستحضرة الحق في الحياة والرغبة في التمسك بالبقاء، فهي الرغبة المقدمة على كل الرغبات، والجذر الذي يستمسك به الجميع وقت الشدائد، لا سيما تلك القادمة من بطون الطبيعة وليس للإنسان دخل في توجيهها.
المشاهد المرعبة التي تناقلتها منصات التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية ووكالات الأنباء وشاشات الفضائيات لتبعات الزلزال المدمر تجبر الجميع على التعاطف، حكومات وشعوب، وتجبرهم على تجميد صراعات البقاء السياسي لأجل البقاء الإنساني الذي بات مهددًا بشكل كبير بسبب التطاول على الطبيعة والتغول على المناخ لصالح حفنة من أصحاب الطموح الاقتصادي غير المسقوف.
التعاطف الإقليمي والدولي مع تركيا وسوريا في مصابهما الجلل يمكن أن يكون نواة لبناء منظومة دولية جديدة، تضع البعد الإنساني فوق كل اعتبار، وتمنح الحق في الحياة القدسية الكاملة، وتضع الخلافات السياسية في إطارها الضيق، وتجعل من حياة الشعوب خطًا أحمر.. فهل تنجح دبلوماسية الكوارث في تحقيق تلك الغاية؟