
مقهى “الفيشاوي” بالقاهرة.. حين التقى بونابرت وروميل بأم كلثوم وزويل
بعد تأجيل استمر لسنوات، جراء الانشغال بارتباطات عمل على مدار العام، قرر الصحفي السعودي سلطان أبو سلمان زيارة مصر أخيرًا، لكنه اشترط في اتصال هاتفي أجراه معي أن تكون أولى زياراته بعد وصوله لمقهى “الفيشاوي” وسط القاهرة، وبدون تردد قبلت شرطه دون مناقشة.
وبالفعل انتقلنا من مطار القاهرة إلى المقهى مباشرة، كان ذلك مساء إحدى ليال أواخر صيف العام الماضي، وما أن وصلنا إلى هناك حتى بدت على وجهه علامات الرضا والسرور، فيما لمعت عيناه بصورة دفعتي لسؤاله عن هذا الشغف الذي لم أراه من قبل إزاء هذا المكان تحديدًا.
وبدون مقدمات وجدته يصف المقهى مترًا مترًا، وكأنه وٌلد بداخله، هنا جلست أم كلثوم وهنا كتب الأديب العالمي نجيب محفوظ ثلاثيته الشهيرة، وهناك كان يجلس يوسف إدريس وبيرم التونسي وصلاح جاهين، وفي تلك الغرفة جلس سعد زغلول وعمرو موسى، ثم أشار بيديه على مكان مكتوب عليه “غرفة البسفور” وقال هنا جلس نابليون بونابرت وروميل وجان بول سارتر والإمبراطورة أوجيني.
لم يكن الصحفي السعودي وحده الشغوف بالفيشاوي، فالألاف من السائحين من مختلف دول العالم، يضعون المقهى في قائمة جدول أعمال زياراتهم لمصر، بل إن كثيرًا منهم يخصها بالزيارة منفردة بعيدًا عن أي أماكن أخرى، حتى باتت واحدة من أشهر معالم مصر وقبلة للزوار من شتى البلدان.
ممر لا يتجاوز طوله بضعة أمتار يشق قلب مدينة القاهرة يتوسط خاصرتها التاريخية، تظلله مآذن وأقبية مسجد الحسين والجامع الأزهر، تحرسه عيون خان الخليلي التي لا تنام طيلة أيام العام، تحول من طاولة خشبية صغيرة إلى أحد أعلام مصر المحروسة، لا يقل شهرة عن الأهرامات ونهر النيل، ولا قيمة عن الشعراوي والغزالي، مٌلهم الفنانين والمثقفين، وكاتم أسرار الملوك والرؤساء، فيه كُتبت أروع روايات مصر التاريخية، وعليه عزفت أعذب الألحان التي تغنى بها أساطير الطرب والغناء في مصر والعالم العربي.
ذكره علماء التاريخ والأثار الفرنسيين في كتاب “وصف مصر” الذي وثق الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801)، وتداولته الأجيال المتعاقبة على إدارة المقهى، وألهمت جغرافيته الواقعة بين مسجد الحسين ومناطق خان الخليلي والجمالية والأزهر والغورية، كل من جلس على كراسيه منذ وقت إنشاءه عام 1797 وحتى اليوم.
من طاولة خشبية لأشهر مقهى في مصر
في عام 1771 كان هناك رجلا يدعى الحاج عبدالله الفيشاوي، يملك بوفيه صغير، أقرب لطاولة خشبية كبيرة نسبيًا، يقدم من خلالها القهوة والشاي لزائري ورواد منطقة خان الخليلي بوسط القاهرة، وكان معظمهم من السائحين، كان البوفيه يسمى بـ “البسفور” وكان عبارة من عدد من الدكاكين الصغيرة على جانبي ممر يخترق الخان.
كان لدى الفيشاوي الكبير حلمًا وطموحًا في أن يمتلك مقهى كبير له حضوره وبريقه ويجذب الجميع، لكن الإمكانيات المادية حينها لم تسعفه، لكنه رغم ذلك لم يفقد الأمل، وبعد قرابة 90 عامًا من عمل البوفيه بشكل غير رسمي، حصل نجل الفيشاوي على أول ترخيص للمقهى عام 1863 في عهد الخديوي إسماعيل (1830-1895) لتبدأ صفحة جديدة من تاريخ المقهى مع “فهمي علي الفيشاوي” الذي نجح في توسعة مساحة إلى أكثر من 900م..ومن هنا كانت البداية..
حرص الفيشاوي الصغير على هندسة المقهى على الطراز المعماري الإسلامي العائلي، مثل البيت المكون من حجرات متلاصقة، وبالفعل كان له ما كان، حيث قسم القهوة إلى ثلاثة حجرات كالمنزل العادي، كي يشعر الناس فيه بالراحة. فالغرفة الأولى يطلق عليها غرفة “البسفور” ( أول مسمى للمقهى)، وهي مبطنة بالخشب المطعم بالأبنوس، وتحوي أدوات مصنوعة من الفضة والكريستال والصينى، وهذه الغرفة كانت مخصصة بشكل أساسي للملك فاروق، وضيوفه في شهر رمضان.
أما الغرفة الثانية فيطلق عليها “التحفة”، وكان لها نصيب من اسمها، فهي أقرب للمتحف الذي يحوي على العديد من القطع الفنية الفريدة، فٌزينت جدرانها بالصدف والخشب المزركش والعاج والأرابيسك، أما أرائكها فهي مبطنة باللون الأخضر، وكانت هذه الغرفة مخصصة للفنانين يجلسون عليها ويتناقشون في أعمالهم الفنية.
ويطلق على الغرفة الثالثة غرفة “القافية”، وكانت تحوي بعض الكنوز الأثرية، مثل مرآة تاريخية فريدة من نوعها وساعة حائط كبيرة، يرجع تاريخها إلى العصر التركي، وراديو أثري يقال إنه أول راديو عرض للبيع في مصر. تحوي الغرفة أيضاً نجفة ضخمة تعتلي الحجرة يرجع تاريخها إلى عام 1800م، وكان يجلس فيها الأديب نجيب محفوظ والعندليب الأسمر عبدالحليم حافظ، وفي العصر الحديث فتحت الغرفة أبوابها لشخصيات مهمة مثل السياسي المصري عمرو موسى، والعالم المصري الراحل أحمد زويل.
تحفة فنية وسوق عكاظ مصغر
لا يتم التعامل مع الفيشاوي كـ مقهى مثل أي مقهى في المحروسة، فهي أقرب لمتحف فني صغير، به اجتمعت كل مواصفات المتاحف المعترف بها دوليًا، سواء من حيث البنيان المعماري أو القيمة التاريخية للمحتوى الداخلي، فهذا الكيان الصغير جغرافيًا يضم بين جنباته منظومة متكاملة من التحف المتناثرة والنقوش الحجرية واللوح الفنية العظيمة والقناديل المضيئة بالزيت.
فضلا عن الإهداءات التي تلقاها صاحب المقهى من بعض الأمراء والوزراء ومنها التمساح الإفريقي الذي يجلب الحظ المهدى من رئيس وزراء السودان، والستائر الزجاجية من الأحجار الكريمة والمرجان، هذا إلى جانب المرايا الضخمة التي اشتهر بها المقهى ، والتي دفعت بعض الكتاب إلى تسميته بـ “مقهى المرايا” كما في المراجع الفرنسية.
أما أطرف الغرف الموجودة بالمقهى، والتي كانت بمثابة “سوق عكاظ” مصغر، ففي النصف الأول من القرن العشرين وبينما كانت الأحياء الشعبية في ذلك الوقت تتبارى في مسابقات الشعر، كانت الفيشاوي حاضرة وبقوة، فبداخل إحدى غرفها (القافية)، ومساء كل خميس من كل شهر، كان المتسابقون يتبارون في إلقاء الشعر والقوافي، فكان ينزل شخص من سماته خفة الظل وسرعة البديهة وطلاقة اللسان والسخرية، فيبدأ بالشعر ثم يرد عليه شخص آخر، ويستمران في المنازلة الكلامية حتى يُسكت أحدهما الآخر.
إزالة تٌنهي حياة الفيشاوي
في عام 1967 أصدرت الحكومة المصرية قرارًا بإزالة جزء من المقهي، وبررت هذا القرار الذي كان صادمًا في ذلك الوقت برغبتها في تجديد منطقة معالم الحسين القديمة وإجراء بعض التغييرات الهندسة بشأنها بما يتناسب مع مساعي التطوير التي ادعت الدولة المصرية آنذاك تبنيها.
في ذلك الوقت شنت الصحف المصرية حملة مضادة ضد الحكومة وطالبتها بعدم الاقتراب من هذا المقهى الذي يجب التعامل معه كأثر حضاري احتضن العشرات من مشاهير العالم في الفن والثقافة والسياسة والدين، وعرض صاحب المقهى الحج فهمي الفيشاوي أي تسوية مادية للحيلولة دون تنفيذ هذا القرار.
إلا أن الحكومة لم تستجب لكل تلك النداءات، ونفذت قرار الإزالة، لتتقلص مساحة المقهى من 900 متر إلى 150 مترًا فقط، ليٌصاب الحج فهمي بأزمة قلبية حادة، جراء الحزن على ما آل إليه وضع المقهى، مصدر رزقه الوحيد والمشروع الذي عاهد والده وجده على الحفاظ عليه، ليفارق بعدها الحياة مباشرة.
وعامًا تلو الأخر بدأت “الفيشاوي” تفقد بريقها، حيث تحولت إلى ساحة للباعة الجائلين، خلافًا للمحلات التي أحيطت بجنباته، والتي أفقدته جزءًا من رونقه كمتحف فني صغير، إلا أنها رغم ذلك لا تزال قبلة للعديد من كبار الشخصيات والسائحين المولعين بأثار مصر القديمة.