مقالات

«الدين الإبراهيمي» وعيد الفصح اليهودي!

القدس العربي

حوّلت حكومة بنيامين نتنياهو، وأحزاب الصهيونية الدينية، مفهوم العيد، بما يعنيه في كل العالم، من مناسبة للاحتفال والفرح، إلى آلية لمنازعة المسلمين، الذين يحتفلون بشهر رمضان، على مكانهم المقدّس، المتمثل بالمسجد الأقصى، وأدى ذلك إلى استنفار العصب الدينيّ لدى الفلسطينيين، والمسلمين في أقطار الأرض كافة.
أدى التنكيل الوحشيّ بالمعتكفين إلى اتساع المواجهات في كل الساحات الفلسطينية، وانطلاق صواريخ من غزة وجنوب لبنان، وغارات جوية على البلدين، واجتماع للجامعة العربية ومجلس الأمن، وأشكال من التنديد الدولي.
استخدام اليمين العنصري الإسرائيلي مناسبة عيد الفصح اليهودي لتنفيذ اقتحامات واسعة للمسجد الأقصى، تتخللها طقوس ذبح القرابين، وأشكال أخرى من التدنيس للبقعة المقدسة لدى المسلمين كافّة، ومحاولة تطبيق ما يسمى التقسيم الزماني والمكاني، يشحن الصراع السياسي الكبير بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بطابع ديني بحيث تغدو المواجهة بين عموم اليهود وعموم الفلسطينيين، وليس بين دولة احتلال ومواطنين واقعين تحت ذلك الاحتلال.
تبرر الأحزاب المتطرفة الإسرائيلية هذه الممارسات بمزاعم أن المسجد الأقصى مبني على أركان «هيكل سليمان» وتستكمل هذه الفكرة أطروحة أن اليهود هجّروا من فلسطين قبل قرابة 2000 عام، وبما أن بناء إسرائيل ككيان سياسي هي عودتهم التاريخية إلى «الأرض التي وعدهم الله بها» فإن بناء الهيكل، مرة أخرى، سيعني اكتمال إنجاز ذلك الوعد.
رغم إنشائها ككيان سياسي لليهود، فإن من قام بتأسيس إسرائيل عمليا كان حركة علمانية هي الصهيونية، وهو ما حوّلها إلى دين أيديولوجي يشتغل على زعم أن اليهودية هي قوميّة وليست دينا فحسب، وهو ما أدى إلى تناقض في معنى إنشاء إسرائيل، بين «الآباء المؤسسين» العلمانيين، والجمهور اليهودي المتديّن.
تمثّل إسرائيل بذلك زواجا هجينا بين عنصرين متقلقلين، وإذا كان طابعها العلماني قد ساهم في السماح باستدخال المسلمين والمسيحيين والدروز واليهود المعارضين للصهيونية في حيز تلك الدولة، مع إخضاعهم لقوانين تمييزية تجعل بعضهم مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة، فإن دفع طابعها الدينيّ أسهم في جعل أمثال مئير كاهانا وايتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش الأبناء المعطوبين للزواج الإشكالي غير المقدّس بين «الدينين» الصهيوني واليهودي.
يحلم هؤلاء في إيصال ذلك الحلم المتناقض إلى نهايته الكابوسية: القضاء المبرم على «الغوييم» (غير اليهود!) عبر التطهير العرقي والديني، ونصب الهيكل الديني بعد الاستيلاء على الهيكل السياسي، وجعل إسرائيل مملكة يقودها «أنبياء» الصهيونية الدينية الجدد.
كما تمكنت إسرائيل من اصطناع مشروع يتجاهل التاريخ والجغرافيا، اللذين يمثلهما الشعب الفلسطيني، والعروبة، والمسيحية، والإسلام، وعصر القوميات والحداثة وشرع حقوق الإنسان والأمم المتحدة، فإن حلم هؤلاء أن يُعاد تأسيس المشروع مجددا على الشكل الخرافيّ الآنف.
يشكّل ما حصل في الأيام الأخيرة تدريبا عمليا على ذلك المشروع الجنونيّ، والذي سمحت به عدة عناصر، أول هذه العناصر هو ورطة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الجنائية التي يحاول الخلاص منها بإنهاء الفصل بين السلطات عبر إخضاع «المحكمة الإسرائيلية العليا» والقضاء بالتالي، لسلطته، وهو ما أدى، بنوع من «مكر التاريخ» إلى ظهور الصراع التناقضي الكبير بين الدينين المؤسسين للدولة: الصهيونية واليهودية، أو بين العلمانيين والمتدينين.
ثاني هذه العناصر هو ركوب نتنياهو، وهو ابن الدين العلماني أصلا، لموجة المتدينين، وتحشيد اليهود الأرثوذكس (الحريديم) ضد الجمهور العلماني الإسرائيلي العام الرافض لسيطرة أولئك على الدولة.
استخدمت موجة التطبيع العربية، في نسختها الإماراتية، غطاء أيديولوجيا هو «الدين الإبراهيمي» الذي يجمع اليهودية والمسيحية والإسلام، والأكيد أن الجذور الإبراهيمية المشتركة، يمكن أن تؤسس لسرديّة لقاء للاشتغال على حلول تاريخية لأزمات سياسية مستعصية، إذا تم ذلك في ظل الشرع الحديثة لحقوق الإنسان، ورفض العنصرية وكراهية الآخر وأشكال التمييز الديني والاحتلال والاستيطان.
لكن ما يحصل حاليا يقوم، في الحقيقة، على بناء «هيكل سليمان» سياسيّ، تتزاوج فيه القوّة الإسرائيلية العارية مع دعم الدكتاتوريات وأنظمة السلطة المطلقة في المنطقة العربية والعالم.
يمكن، ضمن السياق المذكور، اعتبار ما حصل في الأيام الأخيرة اغتيالا ضمنيا لمفهوم «الجذور الإبراهيمية» باستخدام عيد يهودي مقدس ضد شهر إسلامي مقدس، بحيث يكون الفلسطينيون، ومعتكفو الأقصى المصلّون، هم القربان الذي يذبح على مذبح ذلك الزواج العربي ـ الإسرائيلي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى