مقالات

عماد عنان: 7 مليون طفل تركي وسوري ضحية الزلزال.. متى يستيقظ الضمير العالمي؟

بعضهم كان يلعب في غرفته، والأخر خارج فناء بيته، وأخرون نيام في مأمن على أسرتهم، والباقي منهم في أحضان والديه ينهل منهما الحب والسكينة والهدوء، حيث استقبال الحياة بصدر رحب، وخيالات عريضة لمستقبل يؤملون فيه أنفسهم بأن يكون لهم وحدهم، وفجأة ودون سابق إنذار، وفي لحظات ودقائق معدودة، يتحول الحلم إلى كابوس، الأرض تهتز من تحت أقدامهم النحيلة، وجدران البيت الذي طالما أواهم تتهاوى أمام أعينهم التي كساها التراب، ليجد الجميع نفسه خارج دائرة الضوء، تحت ركام البنايات التي احتضنتهم لسنوات، ما بين صريع ومصاب وناج.


صمت وصراخ، ذهول وارتعاش، أنين وبكاء.. مشاهد مبكية تناقلتها منصات التواصل الاجتماعي لضحايا الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا في 6 فبراير/شباط الحاليّ، مخلفًا وراءه 41 ألف قتيل (35418 في تركيا و5801 في سوريا) من الأطفال والصغار.


ليست هناك تقديرات موثقة حول عدد الأطفال الضحايا حتى الساعة، غير أن منظمة “اليونيسيف” تشير إلى أن الآلآف لقوا حتفهم تحت الأنقاض، وفق المؤشرات الأولية، محذرة في الوقت ذاته من أن أكثر من 7 مليون طفل (4.6 مليون طفل في الولايات العشر التي ضربها الزلزال في تركيا و2.5 مليون طفل في شمال سوريا) بحاجة إلى دعم إنساني عاجل.


إن كان وقع الزلزال على الكبار كارثي فإن الأمر مع الأطفال (وقود المستقبل) أكثر مأساوية، إذ من المؤكد أن يكون لتلك المأساة تأثيرها المدمر على عقلية الطفل ونفسيته، في ظل المشاهد المرعبة التي عايشها تحت الركام وبين أشلاء وجثث الأهل، ما يتطلب التحرك العاجل لإعادة التوازن النفسي والعقلي لهؤلاء الأطفال قبل أن يتحولوا إلى قنابل موقوتة، تهدد حياتهم وحياة مجتمعاتهم مستقبلا.


مشاهد مبكية


لحظات مرعبة لا يتمالك فيها المتابع نفسه وهو يترقب لحظات خروج أطفال ناجين من تحت الركام بعد أكثر من خمسة أيام أو أسبوع، القليل يخرج حيًا حتى وإن شوهت الجروح ملامح وجهه البرئ، أما الغالبية فتسبقهم أرواحهم للجنة بعدما فارقت أجسادهم النحيلة التي لم تتحمل هول المشهد.


نظرات الرعب التي تخيم على أعين الأطفال الناجين، والصمت المدوي الذي يفرض نفسه، والرجفة التي تتملك أجسادهم، تكشف وبشكل لا يحتاج إلى توضيح تفاصيل المعاناة وحجم الإحساس ومأساوية الصورة برمتها، حتى وإن قوبلت بصيحات فرحة وابتهاج من المسعفين وفرق الإنقاذ الذين يرون في ذلك معجزة إلهية تتعارض ونواميس الكون الطبيعية.


هاهي الطبيبة التركية نورسا كسكين، طبيبة الأطفال ونائب مدير مستشفى مدينة أضنة (جنوب تركيا)، والتي فقدت أهلها في الزلزال لكنها لم تتوانى عن أداء واجبها نحو الأطفال والصغار فتوجهت على الفور للمستشفى للقيام بدورها الإنساني، تقول في حديثها لـ ” بي بي سي” ان هناك أكثر من 260 طفل في تلك المستشفى فقط مجهولون الهوية، فقدوا أهليهم وأقاربهم في الكارثة.


وتمسك كسكين بيد طفلة تعاني من كسور متعددة وكدمات شديدة في الوجه قائلة “نعرف أين عُثر عليها، وكيف وصلت إلى هنا. لكننا نحاول العثور على عنوان، ولا يزال البحث مستمرا”، وتؤكد أن هناك مئات الحالات الأخرى لأطفال مجهولي الهوية، مات آباؤهم أو يتعذر العثور على ذويهم، وعن تواصل الأطباء مع تلك الحالات الصعبة ومدى ما كان هناك تجاوب منهم يقول الدكتور إلكنور بانليسور، بقسم جراحة الأطفال بالمستشفى: “لا، إنهم يتواصلون فقط بالعين والإيماءات”.


وهاهو “موسى” الطفل السوري الذي لم يتجاوز عمره الأعوام العشرة يروى قصة نجاته ومشاهد الرعب التي عايشها تحت الأنقاض، بينما ترسم الجروح على وجهه أقبح لوحة في تاريخ الإنسانية، فيقول إن امه أيقظته حين شعرت بالهزة الأرضية، وحين قام الطفل كان سقف غرفته قد تهاوى، “أهلي ما أصابهم شيئ بس أخوي بسام الصغير مات”.

التحرك العاجل.. ضرورة إنسانية


تطالب منظمة اليونيسيف بالتحرك العاجل لإنقاذ الأطفال في جنوب تركيا وشمال سوريا قبل تفاقم الوضع، نظرًا لخصوصية الحالة وحساسيتها واحتمالية أن تتجاوز الخطوط الحمراء خلال الأيام المقبلة بعد القيام بأعمال إزالة الأنقاض بشكل كامل عقب فقدان الأمل في العثور على ناجين، بجانب أوضاع الطقس السيئ الذي ربما يزيد المعاناة.


المديرة التنفيذية لليونيسف، كاثرين راسل، تقول إن الأطفال والأسر في تركيا وسوريا “يواجهون مشقات لا يمكن تصورها بسبب الزلزال، وعليه” يجب أن نبذل كل ما في وسعنا لضمان حصول جميع الناجين من هذه الكارثة على الدعم المنقذ للأرواح، بما في ذلك المياه المأمونة، وخدمات الصرف الصحي، والتغذية والإمدادات الطبية الحاسمة الأهمية، وتقديم الدعم للصحة العقلية للأطفال، وليس خلال الفترة الحالية فقط وإنما على المدى البعيد أيضاً”.


ومن خلال تواجدها المستمر منذ البداية تشير المنظمة إلى أن مئات الآلاف من الأسر السورية والتركية باتوا اليوم في أوضاع بائسة، حيث خسروا منازلهم ويعيشون اليوم في مراكز إيواء مؤقتة، بجانب ظروف البرد الشديد وتساقط الأمطار التي تعمق من المأساة المتعمقة بطبيعة الحال بسبب نردة المرافق وانقطاع الخدمات الحياتية لاسيما في الشمال السوري.


على الجانب التركي فرغم مأساوية المشهد بصفة عامة ووضعية الأطفال على وجه الخصوص، إلا أن الأمر ربما يتم تداركه خلال الأونة المقبلة، إذ أن معظم الأسر الموجودة في الجنوب لديهم رجال يعملون في مدن لم تتعرض لمخاطر الزلزال كإسطنبول وأنقرة، هذا بخلاف أفراد من العائلات الجنوبية قد تزوجوا بأفراد من عائلات أخرى في المدن الشمالية، ما يعني في النهاية احتمالية العثور على أقارب للأطفال الناجين من الزلزال والذين يعانون اليوم من جروح وإصابات داخل المستشفيات، حتى أولئك الموسمون بـ “مجهول الإسم”، وذلك بحسب تصريحات صحفية لمصدر في وزارة الأسرة والشؤون الاجتماعية التركية.


أما في سوريا فالوضع مختلف شكلا ومضمونًا، فالحرب الدائرة منذ 12 عامًا بين نظام الأسد وميليشياته من جانب والمعارضة السورية من جانب أخر خلفت ورائها 1.2 مليون طفل يتيم، الأمر اليوم ربما يتجاوز المتوقع بعد زلزال الشمال الذي يعاني بطبيعة الحال من أوضاع معيشية متدنية فيما يتعلق بالبيئات الملائمة لنشأة الأطفال ونموهم السوي، وهو ما دفع المنظمات الأممية للتحذير من أن حياة 2.5 مليون طفل سوري في مناطق الشمال في خطر.


وفي تقرير حديث للمجلس العربي (تأسست كمنظمة دولية في فبراير/شباط 2022 في سويسرا ويرأسها المنصف المرزوقي، وتعتبر امتدادا لتجربة “المجلس العربي للدفاع عن الثورات الديمقراطية” الذي تم الإعلان عن تأسيسه في يوليو/تمًوز 2014 بتونس) كشف أن 18% من الأطفال السوريين ممن هم في سن الدراسة لا يذهبون إلى المدرسة، وأن النزاع في البلاد أدى إلى تعطل أكثر من 1600 مدرسة، بعضها تحول إلى مراكز تحقيق واعتقال، وأخرى إلى ثكنات عسكرية، ما يجعل البيئات التعليمية لاسيما في الشمال غير آمنة وهو ما يهدد مستقبل أجيال بأكملها في تلك المناطق.


المأساة هنا لا تقف عند حاجز من توفوا من الأطفال تحت أنقاض الزلزال، لكن ربما يزداد تفاقمها مع الناجين منهم، وهو ما حذرت منه المحللة الروسية من أصول سورية، لانا بادفان، بقولها إن “هذه الكارثة الطبيعية ستؤدي إلى انهيار نفسي وعقلي للعديد من الأطفال الذين فقدوا أحباءهم، فقد سمعنا صراخهم وهم يرقدون بين الركام في منازلهم المهدّمة، وهو أمر لا يمكنهم تجاوز آثاره بسهولة”، منوهة إلى حاجة أطفال سوريا اليوم وقبل الغد، وأكثر من أي وقت مضى ، إلى الرعاية النفسية المتطورة لمساعدتهم على تجاوز تلك المحنة.

الدعم النفسي.. الخطوة الأهم


لا توجد كلمات تصف هول المشهد وحجم معاناة الأطفال تحت الركام طيلة تلك الساعات، فكيف لصغار في عمر الزهور أن يتعرضوا لمثل هذا الاختبار القاسي الذي قد لا يتحمله اليافعون، الأمر الذي ينذر بأزمات نفسية طاحنة قد يتعرض لها هؤلاء، أزمات ربما تعصف بحاضرهم وتهدد مستقبلهم إن لم يتم التعامل معها بأليات ومنهجات مغايرة تمامًا لما هو معتاد.


خبيرة الدعم النفسي للكوارث والأزمات والحاصلة على دكتوراه في الدعم النفسي بالسيكودراما، وفاء أبو موسى، تصف الدعم النفسي للأطفال الناجين في تلك الحالة بـ “المضاد الحيوي” اللازم لتجاوز الأزمة وحالة الفقد، والممر الأول نحو عودة الصغار إلى حياتهم الاعتيادية.


وفي حوار أجرته معها “الجزيرة نت” قسمت أبو موسى الدعم النفسي إلى نوعين: الأول: ذلك المقدم من المسعفين وفرق الإنقاذ لحظة خروج الطفل من تحت الركام، حيث ضرورة وضعه في مكان آمن وطمأنته قدر الإمكان وبأقصى سرعة، وهذا الأمر قد يستغرق من 3 أيام إلى أسبوعين، وتسمى تلك المرحلة بـ “مرحلة ممارسة الحزن” حيث يكون الطفل ميالا فيها للبكاء والحزن على من فقدهم من الأهل والأصدقاء.


أما النوع الثاني من الدعم فهو الذي يقدمه المتخصصون من خبراء الصحة والطب النفسي، ويقدم للطفل بعد أسبوعين أو عشرة أيام حسب كل حالة على حدة، وهنا يتم مساعدة الناجين على التعبير عن الصدمة والاستماع الجيد لهم وتهيئتهم بشكل جيد لاستقبال الحياة مجددًا، بعدما يكون قد تخلص إلى حد كبير من هول الصدمة.


وتحذر الطبيبة المتخصصة في الدعم النفسي للكوارث والأزمات من وضع الأطفال اليتامى والفاقدين لذويهم في دور الأيتام، خاصة في المراحل الأولى، فالأولى تهيئة بيئات آمنة تمامًا بعيدًا عن أي استفزازات أو اعتداءات أو أي نوع من أنواع العنف الممارس، وأضافت “يجب وضع هؤلاء الأطفال مع عائلات من أقاربهم أو أي عائلة أخرى مهيأة لمساعدتهم، ومن المهم في هذه المرحلة أن يشعر الطفل بالوجود العائلي بعد فقده أهله”.


وهنا مسئولية تشاركية من الجميع، مابقي من الأهل والجيران والمعارف وأجهزة الدولة ومؤسسات المجتمع المدني، للتكاتف من أجل مساعدة الأطفال الناجين في الخروج من تلك الحالة بأقصى سرعة ممكنة، حفاظا على حياتهم من الانزلاق في مستنقعات الاضطرابات النفسية التي قد تحول حياتهم إلى جحيم في المستقبل، وتفقدهم القدرة على تقديم أي شيئ لمجتمعاتهم وتحولهم إلى عالة على المجتمع.


ماحدث يجب أن يكون ناقوس خطر وجرس إنذار للجميع، فكما يطالب المجتمع الدولي باستثناء الأزمات الإنسانية من معارك النزاع السياسي بين الدول والأنظمة، لابد من أن يكون للأطفال وضعية استثنائية بعيدًا عن التجاذبات التي كما أفقدتهم طفولتهم وبراءتهم لسنوات هاهي تهددهم بفقدان حياتهم بشكل كامل.


القبيح في الصورة أن تلك المشاهد بكل ما تحمله من مآسي تحرك الأحجار وتزلزل القلوب الصلبة، لم تحرك ضمائر الباحثين عن مكاسب سياسية من وراء ما حدث، المتاجرة بمعاناة الأطفال وحياتهم وفقدان الحد الأدنى من الشعور الإنساني حولهم إلى ضباع تتراقص على أشلاء الصغار، في واقعة لن ينساها التاريخ الذي سيظل يلاحقهم بالعار مهما كانت عوامل التعرية الزمنية.

نقلا عن “noonpost”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى