
الإيجار القديم.. القانون الذي يحبس أنفاس ملايين المصريين
حالة من الترقب تخيم على أوساط الملايين من المصريين بعدما دخل قانون الإيجار القديم ساحة النقاش البرلماني تمهيدًا لإقراره بعد انتظار دام لسنوات طوال، وهو القانون الذي يراه خبراء عقاريون أحد المعضلات الرئيسية في القطاع الإسكاني الاجتماعي كونه يشتبك مع عشرات الملايين من أبناء الشعب المصري بين مستأجر ومالك.
ويناقش مجلس النواب (البرلمان) المصري هذه الأيام القانون الجديد بعدما انتهت الحكومة من مسودة الرئيسية وقدمته للبرلمان الذي حوله بطبيعة الحال على لجنة الإسكان لطرحه للنقاش داخل أروقة المجلس وسط انقسامات حادة بين النواب لبعض ما تضمنه القانون من بنود يعتبرها البعض غير منطقية فيما يراها أخرون عنصرية، بينما ذهب فريق ثالث إلى افتقادها للبعد الإنساني وتعريضها لمستقبل مئات الالاف من الأسر المصرية للخطر والتشريد.
ويٌعرف قانون الإيجار القديم بأنه النظام السكني المتعامل به وفق القانون رقم 136 لسنة 1981 والذي يحدد العلاقة بين المالك والمستأجر، والذي يتضمن استحواذ المستأجر على الوحدة المستأجرة مدى الحياة ويقوم بتوريثها للأبناء والأحفاد بقيمة إيجارية متدنية تصل في بعض الأحيان إلى 50 جنيهات، أي أقل من دولار واحد في الشهر، في الوقت الذي تصل فيه القيمة الإيجارية لوحدة ملاصقة بنظام الإيجار الجديد أكثر من 10000 جنيها (200 دولار) وهو ما أثار حفيظة الملاك الذي يطالبون بأحقيتهم في رفع الإيجار الشهري بما يتناسب مع أسعار اليوم.
وظل هذا النظام السكني ساحة للصراع بين الملاك والمستأجرين على مدار عقود طويلة، وملف شائك تجنبت الكثير من الحكومات المصرية المتعاقبة على الاقتراب منه، إلى أن جاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في تشرين الأول/أكتوبر 2023 مطالبًا بضرورة وجود “قانون قوي وحاسم وسريع” لمعالجة مشكلة العقارات المطبق عليها قانون “الإيجار القديم”.. فهل ينجح القانون المعروض حاليًا في فك حالة الاشتباك والوصول إلى صيغة عادلة ومقبولة اجتماعيًا تٌرضي المالك والمستأجر معًا؟
الملايين تترقب.. من هنا يستمد القانون أهميته
تشير لغة الأرقام الخاصة بالأطراف المشتبكة مع نظام الإيجار القديم إلى أهمية القانون الذي يُناقش حاليًا، وحالة الترقب التي تهيمن على عشرات الملايين من المتعاملين من خلاله، وهو ما يمكن الوقوف عليها من خلال بعض الإحصائيات والتقديرات الرسمية وشبه الرسمية، والتي تذهب إلى وجود مليوني و800 ألف وحدة سكنية تخضع لقانون الإيجار القديم منها 450 ألف وحدة مغلقة، ما يعني أن هناك 1.3 مليون وحدة مأهولة بالسكان خاضعة مؤجرة بنظام الإيجار القديم.
كذلك هناك 1.6 مليون أسرة تسكن بهذا النظام، معظمهم في القاهرة (470 ألف أسرة) يشكلون نحو 25% من إجمالي أسر المحافظة البالغ سكانها 10.2 مليون نسمة وفق إحصاء 2023، تليها محافظة الجيزة بـ19% من الأسر (308 ألف)، والبالغ إجمالي عدد سكانها 9.4 مليون نسمة، ثم الإسكندرية بـ13% من الأسر (213 ألف)، ويبلغ إجمالي سكانها 5.5 مليون نسمة.
وبحسب بحث ميداني لمرصد العمران نشره في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 معتمدا على بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لعام 2017، فإن ثلث الأسر المستأجرة بعقود الإيجار القديم، أي تقريبًا 600 ألف أسرة، تسدد إيجارات تقل عن 50 جنيهًا (دولار واحد) في الشهر، بينما تسدد 20% من الأسر، أي حوالي 327 ألف أسرة إيجارات تتراوح بين 50 و100 جنيه (1 – 2 دولارًا) شهريًّا.
أما الأسر التي ترتفع إيجاراتها الشهرية إلى ما بين 100 و200 جنيه (2 – 4 دولارات)، فتمثل 19% من الأسر أو 307 ألف أسرة.، فيما يسدد الثلث المتبقي من الأسر إيجارات تتراوح بين 200 (4 دولارات) إلى أعلى من 900 جنيه (18 دولار) شهريًّا، بحسب بحث لمرصد العمران نشره في نوفمبر/تشرين الثاني 2024
أما المتضررين من القانون من الملاك فهناك أكثر من 25 مليون مالك متضررون من استمرار العمل بهذا النظام، إذ يرون أنه جردهم من أملاكهم وحولها إلى أعباء عليهم، وأفقدهم مصدر دخل كبير إذا ما قورن بأسعار اليوم بالنسبة للوحدات المتعاملة بنظام الإيجار القديم والتي تصل قيمتها الإيجارية إلى ما يزيد عن 100 ضعف المعمول به في الإيجار القديم.
ما المشكلة في القانون الحالي؟
السؤال الذي يفرض نفسه على السنة الجميع: ما مشكلة القانون المعمول به حاليًا حتى يثُار حوله كل هذا اللغط ويقود الجميع نحو تشريع قانون جديدة ينسف جملة وتفصيلا كل ما جاء في القانون الحالي؟
تجدر الإشارة ابتداء إلى أن القانون المعمول به حاليًا في نظام الإيجار القديم هو القانون رقم 136 لعام 1981، في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، إذ حدد قيمة الإيجار بـ 7% من قيمة الأرض، وزيادة الإيجار للعقارات غير السكنية بقيمة تراوح ما بين 5- 30%.
ووقع هذا القانون حينها في معضلة قانونية لا زال يدفع ثمنها المصريون حتى اليوم، حين نص على ثبات الأجرة السنوية للأماكن المرخص في إقامتها لأغراض السكن اعتباراً من تاريخ العمل بأحكام هذا القانون وعدم زيادتها، وعدم إمكانية طرد المستأجر تحت أي ظرف طالما كان ملتزما بدفع الإيجار.
ربما كانت القيمة الإيجارية بداية إصدار هذا القانون عادلة وفق مستوى الإيجارات والدخول والأسعار في ذلك الوقت، غير أن المعضلة الأبرز التي لم يفطن إليها هذا القانون أنه نص على ثبات الأجرة السنوية للأماكن المرخص في إقامتها لأغراض السكن اعتباراً من تاريخ العمل بأحكام هذا القانون وعدم زيادتها.
بطبيعة الحال كانت الحكومة المصرية حينها تستهدف حماية المستأجر من أي زيادة قد يٌقدم عليها ملاك العقارات، خاصة بعد زيادة أعداد الأجانب في مصر في ذلك الوقت والحديث عن إمكانية دفع قيمة إيجارية أعلى للوحدات، مما دفع السلطات وقتها لحماية المصريين من غول الرأسمالية المتوحشة فكان قانون تثبيت الأيجار إلزاميًا على الجميع.
الساكنون في الوحدات المؤجرة بنظام الإيجار القديم يرون أن أبائهم دفعوا قديمًا سعرًا عادلة للوحدة، وتحملوا مصاريف مرتفعة نظير تشطيبها وإنهاء المرافق بها، وهي المبالغ التي كانت حينها مرتفعة مقارنة بالأسعار المتداولة وقتها، ومن ثم فإن الحديث عن الحصول على تلك الشقق بسعر بخس قياسا بأسعار اليوم حديث يفتقد للموضوعية والإنصاف كما يقولون.
وتعد مصر من أقدم الدول التي شرعت قوانين لتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر، والتي تأتي في جلها متحيزة للحلقة الأضعف وهو المستأجر، البداية كان عام 1920 وهو القانون الذي قضى بعدم جواز إخراج المالك للمستأجر إلا بحكم محكمة، وفي أثناء الحرب العالمية الثانية أصدرت الحكومة المصرية وقتها قانونا عام 1941 يمنع بشكل بات وحازم المالك من رفع قيمة الإيجار أو طرد المستأجر، وذلك مراعاة للأوضاع الاقتصادية والمعيشية التي كانت تعاني منها الدولة في ذلك الوقت.
وفي خمسينات القرن الماضي، وبعدما أُطيح بالملكية، وأعلنت الجمهورية، أصدرت الدولة عددًا من القوانين التي تنظم تلك العلاقة الإيجارية، كان أبرزها القانون رقم 136 لعام 1981 في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، والذي يراه البعض لم يعد ملائما لمستجدات العصر، ومن ثم كان تغييره بقانون جديد يراعي تلك الفوارق مسألة ملحة، لا يختلف عليها أي من الطرفين، إذ ليس من المعقول أن يدفع ساكن وحدة إيجارية بنظام الإيجار القديم مبلغ 50 جنيهًا ( 1دولار) شهريًا في الوقت الذي يدفع جاره في الوحدة الملاصقة له بذات العقار، بنظام الإيجار الجديد، إيجارًا شهريًا يصل لنحو 15000 جنيهًا (300 دولارًا)
ماذا عن ملامح القانون الجديد؟
رغم أنه لم يخرج للنور بشكل رسمي إلا أن العديد من البنود تم تسريبها كشفت عن أبرز ما جاء في قانون الإيجارات الجديد الذي يناقش حاليًا داخل أروقة البرلمان، على رأسها رفع القيمة الإيجارية للوحدات السكنية المؤجرة لغرض السكن إلى 20 ضعفًا من قيمتها الحالية، على ألا يقل الحد الأدنى بعد الزيادة عن 1000 جنيها (20 دولار) في المدن والأحياء الحضرية، و500 جنيها (10 دولار) في القرى، أما الوحدات المؤجرة لغير غرض السكنى (تجاري)، فستُرفع القيمة الإيجارية إلى 5 أضعاف القيمة الحالية،
يبدأ تطبيق الزيادات فور صدور القانون، والذي يُتوقع الانتهاء منه قبل نهاية دور الانعقاد الحالي للبرلمان في حزيران/ يونيو المقبل، أي قبل 60 يومًا كحد أقصى، مع إقرار زيادة سنوية في القيمة الإيجارية بنسبة 15% بعد تطبيق القانون.
كذلك من أبرز البنود التي تضمنها القانون إنهاء جميع عقود الإيجار القديمة خلال 5 سنوات من تاريخ تطبيق القانون، لتتحول بعدها إلى عقود إيجار جديدة وفقًا لأحكام القانون المدني، أي أن العلاقة بين المالك والمستأجر ستُعاد صياغتها وفق التفاوض الحر بعد انقضاء تلك المدة.
وينقسم المشروع المقدم إلى قسمين: الأول: يتعلق إلزام المستأجرين بإخلاء الوحدات المؤجرة لهم خلال فترة خمس سنوات من تاريخ سريان القانون، وفي حال الرفض، من حق الملاك اللجوء إلى القضاء لطلب طرد المستأجر الممتنع عن الإخلاء، وفي حالة حدوث أي طرد جماعي فقد نص المشروع على منح المستأجرين وحدات سكنية بديلة، سواء كانت على سبيل الإيجار أو التمليك، وذلك وفقًا لقواعد يحددها رئيس مجلس الوزراء.
أما القسم الثاني فيتعلق بزيادة الإيجارات وتنقسم إلى جزئين، الوحدات المؤجرة لغير أغراض السكن ( تجارية أو إدارية)، والوحدات المؤجرة لأغراض السكن، وفق الزيادات سالفة الذكر.
انقسامات داخل البرلمان
شهدت اجتماعات لجنة الإسكان في مجلس النواب لمناقشة القانون الجديد عددًا من الانقسامات والمشادات بين الأعضاء بسبب بعض البنود، حيث حذر البرلماني منصف نجيب، نائب رئيس مجلس الدولة الأسبق، من شُبهة عدم الدستورية في مشروع القانون، قائلًا: “أخشى على القانون من شبهة عدم الدستورية خاصة في المادة 2 التي تنص على جملة الأماكن المؤجرة للسكنى، والتى تشمل جاردن سيتي والزمالك وأيضًا الغرف الموجودة على الأسطح والتي يستحق ساكنيها معاملة مختلفة”.
أما النائب أحمد السجيني فانتقد الحكومة بسبب تقديمها لهذا المشروع، قائلًا: “القانون المُقدم بعيد كل البعد عن المناقشات التي حدثت في لجنة 4+4 التي انعقدت بوزارة العدل في 2024″، متسائلا عن وجود دراسة لدى الحكومة حول قياس الأثر الاجتماعي والاقتصادي والديموجرافي، مطالبًا بأن تكون المذكرة الإيضاحية لمشروع تعديل قانون الإيجار القديم، متضمنة جميع البنود، وكذلك الأحكام الدستورية.
فيما وصف النائب مصطفى بكري القانون بـ”كرة اللهب التي أُلقيت في حجر مجلس النواب” مضيفًا أن حكم المحكمة الدستورية انحاز للمالك تحديدًا وقصر مد الأجل إلى جيل واحد، والمادة الخامسة تناقض حكم الدستورية العليا، وهي غير دستورية، وليس بها نظرة اجتماعية ولا اقتصادية، على حد قوله.
وتنص المادة الخامسة على انتهاء عقود الإيجار القديم بانتهاء مدة خمس سنوات من تاريخ العمل بالقانون الجديد، ما لم يتم التراضي على الإنهاء قبل ذلك، فيما نصت المادة الرابعة على أن تزداد سنويًا، بصفة دورية، آخر قيمة إيجارية قانونية مستحقة وفق أحكام هذا القانون بنسبة 15%..
وتساءل بكري “على أي أساس تم تحديد النسب، فالمادة هنا مناقضة لمبدأ المساواة، ولم يتم التفرقة بين من يسكن في شبرا ومن يسكن في مصر الجديدة”، مضيفًا: “انتو بتلعبوا علينا، الحكومة دي متسلطة على الشعب المصري بقانون يفجر البلد، ولن نسمح إلا بصدور قانون متوازن”
فيما حذر النائب محمد عبد العليم داود من تداعيات هذا القانون حال إقراره بتلك الصيغة على مستقبل البرلمان بأكمله، قائلا “زمان قالوا إن المحليات هي مقبرة النواب، إذا لم نكن متأنين في المناقشة سيكون القانون مقبرة لبرلمان 2025، وهناك ظلم بيّن للمالك ومستقبل مظلم للمستأجر، وبهذا القانون بنبيع سمك في ميه”.
4 مقترحات على طاولة النقاش
هناك 4 اقتراحات وسيناريوهات رئيسية تفرض نفسها على طاولة النقاش البرلماني من أجل التوصل إلى صيغة توافقية يخرج بها القانون بما يحقق العدالة للمستأجر والمالك معًا:
المقترح الأول.. اعتماد ذات الألية التي أقرتها المحكمة الدستورية على الوحدات المؤجرة لغير أغراض السكنى، وتطبيقها على الوحدات المؤجرة لأغراض السكنى، والتي تتضمن زيادة الإيجار بشكل فوري عدة أضعاف، ثم تحديد زيادة سنوية لعدة سنوات، ينتهي بعدها العقد وتتحرر العلاقة الإيجارية.
المقترح الثاني.. تقسيم الأماكن إلى مناطق حسب قيمتها السوقية، وتحديد متوسط سعر الإيجار في كل منطقة، وعلى هذا الأساس تُحدد نسب الزيادة في القيمة الإيجارية، على أن تتولي لجان من الإدارة المحلية تلك المهمة، وهو المقترح الذي يحظى بدعم قطاع كبير من البرلمانيين والملاك والمستأجرين.
المقترح الثالث.. أن يتم احتساب الزيادة الإيجارية وفقًا لدخل المستأجر، وأن يقسم المستأجرين إلى فئات وشرائح طبقًا لمستوى الدخول، وهو ما يحقق نسبة من العدالة وإن كان مقترحًا غير دستوري.
المقترح الرابع.. توفير الدولة لوحدات سكنية لغير القادرين على دفع القيم الجديدة للإيجار، مع تقديم دعم مالي للمستأجرين غير القادرين على دفع كامل القيمة الإيجارية، وذلك حتى انتهاء ملهة السنوات الخمسة، على أن يكون هناك صندوق خاص تابع للحكومة لتمويل هذا التوجه، وهو ما ألمح إليه القانون حين أكد على أنه لا طرد لمستأجر.
وهكذا يترقب الشارع المصري ما ستٌفضي إليه المناقشات البرلمانية، لتبقى الأيام المقبلة حتى نهاية حزيران/يونيو القادم ساحة احتباس أنفاس لعشرات الملايين، ما بين مستأجر مُهدد بالطرد في حال عدم القدرة على الوفاء بالزيادات الإيجارية، ومالك يؤمل نفسه في استرداد بعضًا من قيمة أصوله شبه المعطلة.. فهل يمكن الوصول إلى صيغة توافقية تراعي مصالح الطرفين؟